نص ما ذكره الجاحظ
في الجزء الثاني في كتابه الحيوان عن الحسد
الأكل بين أيدي السباع
فأمَّا علماءُ الفرسِ والهِند، وأطبَّاء اليونانيِّينَ ودُهاةُ العرب، وأهلُ التَّجربة من نازِلة الأمصار وحُذّاق المتكلّمين، فإنهم يكرهون الأكلَ بين أيْدِي السِّباع، يخافون نفوسَها وأعينها، لِلَّذي فيها من الشَّرَه والحِرص، والطَّلَب والكَلَب، ولِمَا يتحلَّلُ عند ذلك من أجوافها من البخار الردِيء، وينفصل مِن عيونها من الأُمور المفسِدة، التي إذا خالطتْ طباعَ الإنسان نقضَتْه، وقد رُوي مثلُ ذلك عن الثَّوري عن سِماك بن حَرْب عن ابن عبّاس أنّه قال على مِنبر البَصرة: إنّ الكلاب من الحِنّ، وإنّ الحِنَّ من ضَعَفَةِ الجِنّ، فإذا غشِيكم منها شيءٌ فألقوا إليه شيئاً واطردوها، فإنّ لها أنفسَ سوء، ولذلك كانوا يكرَهون قِيَامَ الخدمِ بالمذَابِّ والأشربةِ على رُؤُوسهمْ وهم يأكلون؛ مخافة النفس والعَين، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبلَ أنْ يأكُلوا، وكانوا يقولون في السِّنَّور والكلب: إمَّا أنْ تطردَه قبل أن تأكلَ وإمَّا أن تشغَلَهُ بشيء يأكله، ولو بعظم، ورأيتُ بعضَ الحكماء وقد سقطت من يده لقمةٌ فَرَفَعَ رأسه، فإذا عينُ غلامٍ له تحدّق نحوَ لقمته، وإذا الغلامُ يزدَرِدُ ريقه لتحلُّب فمِه من الشَّهوة، وكان ذلك الحكيمُ جيِّدَ اللَّقْم، طيِّب الطعام، ويضيِّق على غلمانه، فيزعمون أنّ نُفوسَ السِّباع وأعينَها في هذا الباب أردأ وأخبَث وبينَ هذا المعنى وبين قولهم في إصابة العينِ الشيء العجيبَ المستحسَنَ شِرْكَةٌ وقَرَابَة؛ وذلك أنَّهم قالوا: قد رأينا رجالاً ينسب ذلك إليهم، ورأيناهم، وفيهم من إصابة العَين مقدارٌ من العدد، لا نستطيع أن نجعل ذلك النّسَق من باب الاتِّفاق، وليس إلى ردِّ الخبر سبيل؛ لتواتره وترادُفِه، ولأنّ العِيانَ قد حقّقه، والتجربة قد ضُمّت إليه، وفي الحديث المأثور في العين التي أصابت سَهْل بن حُنيف فأمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بالذي أمَرَ، وذلك مشهور.
كلام في العين والحسد
قالوا: ولولا فاصل ينفصل من عين المستحسِن إلى بدن المستحسَن، حتَّى يكون ذلك الداخلُ عليه هو الناقضَ لقُواهُ لَمَا جاز أن يلقى مكروهاً البتَّة، وكيف يلقى المكروه من انساقَ في حَيزه وموضِعه، والذي أصابته العين في حيّزه أيضاً وموضعه، من غير تماسٍّ ولا تصادُم، ولا فاصل ولا عامل لاقى معمولاً فيه، ولا يجوز أنْ يكون المعتل بعد صحّته يعتلُّ من غير معنى بدنُه، ولا تنتقض الأخلاط ولا تتزايل إلاّ لأمرٍ يعرِض، لأنه حينئذٍ يكونُ ليس بأولى بالانتقاض من جسمٍ آخر، وإن جاز للصحيح أنْ يعتلّ من غير حادث، جاز للمعتلّ أنْ يبرأ من غير حادث، وكذلك القولُ في الحركة والسكون، وإذا جاز ذلك كان الغائبُ قياساً على الحاضر الذي لم يدخل عليه شيء من مستحسِن له، فإذا كان لابدَّ من معنى قد عَمِل فيه، فليس لذلك المعنى وجه إلاّ أن يكونَ انفصل إليه شيء عَمِل فيه، وإلاّ فكيف يجوزُ أن يعتلّ من ذاتِ نفسه، وهو على سلامتِه وتمام قوّتِه، ولم يتغيَّرْ ولم يحدُث عليه مايغيِّره، فهو وجسم غائب في السَّلامة من الأعراض سواءٌ، وهذا جواب المتكلِّمين الذين يصدِّقون بالعين، ويُثبتون الرُّؤيا.
القول في إصابة العين ونحوها
فإن قال قائل: وما بلغ من أمر هذا الفاصِل الذي لا يشعر بِهِ القوم الحضورَ ولا الذي انفصل منه، ولا المارّ بينهما، ولا المتلقِّي له ببدنِه وليس دونهُ شيء، وكيف لم يعْمَلْ في الأقربِ دونَ الأبعد، والأقربُ إنسان مثله، ولعلَّه أن يكون طبعهُ أشدَّ اجتذاباً للآفات، وبعد، فكيف يكون شيءٌ يصرَع الصحيحَ ويُضجِع القائم، وينقُض القوى، ويُمرِض الأصحَّاء، ويصدَع الصَّخر ويهشِم العظْم، ويقْتُل الثَّور، ويَهدُّ الحمار، ويجري في الجَماد مَجراه في النبات، ويجري في النَّبات مجراه في الحيوان، ويجري في الصّلابة والملاسة جريهُ في الأشياء السخيفة الرِّخوة؛ وهو ممَّا ليس له صدم كصدم الحجر، أو غَرْب كغرْب السَّيف، أو حدٌّ كحدِّ السِّنان؛ وليس من جنس السمّ، فيحمل على نفوذ السُّمّ؛ وليس من جنس الغذاءِ فيُحمل على نفوذ الغِذاء، وليس من جنس السِّحر فيقال إنَّ العُمَّار عملوا ذلك من طريق طاعتهم للعزائم، فلعلَّ ذلك إنَّما كان شيئاً وافق شيئاً، قيل لهم: قد تعلمون كيف مقدارُ سَمِّ الجرَّارة أو سمّ الأفْعى، وكيف لو وزنتم الجَرَّارة قبل لسعِها وبعده لوجدتموها على حالٍ واحدة، وأنت ترى كيف تفسَخ عْقدَ بدن الفيل، وكيف تنقض قوى البعير، من غير صدم كصدم الحجر، وغربٍ كغرب السَّيف، وحدٍّ كَحَدِّ السنان، فإنْ قلت: فهل نابُ الأفْعَى وإبرةُ العقرب إلاّ في سبيلِ حدِّ السنان؟ قلنا: إنَّ البعيرَ لو كان إنما يَتَفَسَّخ لطعْن العَقرب بإبرتها لمَا كان ذلك يبلغ منها مقدار النَّخس فقَط، ولكنَّه لاَبُدَّ أن يكون ذلك لأحد أمرَين: إمَّا أن تكون العقربُ تمجّ فيه شيئاً من إبرتها، فيكون طبع ذلك وإن قلَّ يفسخ الفيلَ والزَّندبيل، وإمَّا أن يكون طبعُ ذلك الدَّم إذا لاقاهُ طبعُ ذلك الناب وتلك الإبرة أن يُجمد فيقتل بالإجماد، أو يذيب فيقتل بالإذابة، فأيَّهما كان فإنَّ الأمرَ فيه على خلاف ما صدَّرتم به المسألة.
ولا تنازعَ بين الأعراب والأعرابُ ناس إنّما وضعوا بيوتَهم وأبنيتهم وسطَ السِّباع والأحناش والهمَج، فهم ليس يعبُرون إلاّ بها، وليس يعرفون سواها وقد أجمعوا على أنّ الأفْعَى إذا هرِمت فلم تَطعَمْ ولم يبقَ في فمها دم أنَّها تنكز بأنفها، وتطعن به، ولا تعضُّ بفيها، فيبلغ النَّكزُ لها ما كان يبلغ لها قبلَ ذلك اللَّدغُ، وهل عندنا في ذلك إلا تكذيبُهم أو الرجوعُ إلى الفاصل الذي أنكرتموه، لأنَّ أحداً لا يموت من تلك النّخسة، إن كان ليس هناك أكثر من تلك الغمْزة، وقال العجَّاج، أو ابنه رؤبة:
كنتم كَمنْ أدخَلَ في جُحْرٍ يداً ... فأخطأ الأفْعَى وَلاَقى الأسودا
ثم قال:
بالشمِّ لا بالسَّمِّ منه أقصدا
وقال الآخر:
أصمَّ ما شمّ من خَضْرَاءَ أيبسها ... أو مسَّ من حجرٍ أوْهَاهُ فانصدعا
وقد حدَّثَني الأصمعِيُّ بِفَرْق ما بينَ النَّكْز وغيره عند الأعراب، وههنا أمثال نضْرُِها، وأمور قد عاينْتموها، يذلَّلُ بها هذا المعنى عندَكم ويسهُل بها المدخَل، قولوا لنا: ما بالُ العجينِ يكون في أقصى الدار ويفلق إنسان بِطِّيخةِ في أدنى الدار، فلا يفلح ذلك العجين أبداً ولا يختمر؟ فما ذلك الفاصلُ؟
وكيف تقولون بصدمٍ كان ذلك كصدم الحجر، أو بغرب كغرب السيف وكيف لم يعرِض ذلك الفساد في كلِّ معجون هو أقربُ إليه من ذلك العجين، وعلى أنَّ نكْز الحيَّةِ التي يصفُه الشُّعَراء بأنَّ المنكوزَ ميِّت لا محالة، في سبيل ما حدَّثني به حاذقٌ من حذَّاق الأطباء، أنّ رجلاً يضرب الحيَّة مِن دواهي الحيّات بعصاهُ فيموت الضّاربُ، لأنهم يرون أنّ شيئاً فَصلَ من الحيَّةِ فجرى فيها حتَّى داخل الضارب فقتله، والأطباء أيضاً والنَّصارى أجْرأ على دفع الرُّؤْيا والعين، وهذه الغَرائبِ التي تُحكى عن الحيَّات وصرْعِ الشيطان الإنسانَ، من غيرهم.
فأمَّا الدُّهريّة فمنكِرةٌ للشياطين والجنِّ والملائكة والرُّؤيا والرُّقى، وهم يرون أنَّ أمرَهم لا يتمُّ لهم إلاّ بمشاركةِ أصحاب الجَهالات.
وقد نجدُ الرجُل ينقف شحم الحنظل، وبينه وبين صاحبه مسافة صالحة، فيجد في حلقه مَرارة الحنظل، وكذلك السُّوس إذا عولجِ بهِ وبينه وبين الإنسانِ مسافة متوسّطة البعد، يجِدُ في حلقهِ حلاوة السوس، وناقف الحنظل لا تزال عينه تهمُل مادام ينقفه، ولذلك قال ابن حُذام، قال أبو عبيدة: وهو الذي يقول:
كأنِّي غداةَ البينِ يومَ تحمَّلوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الحيِّ ناقفُ حنْظل
يخبر عن بكائه، ويصِف دُرُورَ دَمعتِه في إثْر الحمول، فشبَّه نفسه بناقف الحنظل، وقد ذكره امرؤ القيس قي قوله:
عوجَا على الطّلَلِ القديم لعَلّنا ... نَبْكِي الدِّيارَ كما بكى ابن حمامِ
ويزُعمون أنّه أوّل مَن بكى في الدِّيار، وقد نجِدُ الرَّجُلَ يقطَع البصل، أو يُوخِفُ الخَرْدل فتدمع عيناه، وينظر الإنسان فيديمُ النّظرَ في العين المحمرة فتعتري عينَه حُمرة، والعرب تقول: لَهُو أعدَى من الثُّؤَباء، كما تقول: لَهُو أعدى من الجَرَب، وذلك أنّ مَن تثاءَب مِراراً، وهو تُجاه عينِ إنسان، اعترى ذلك الإنسان التثاؤب، ورأيت ناساً من الأطباء وهم فلاسفة المتكلِّمين، منهم مَعْمر، ومحمد بن الجَهْم، وإبراهيم بن السِّنْديّ، يكرهون ذُنُوَّ الطامثِ من إناءٍ اللبن لتَسُوطه أو تعالجَ منه شيئاً، فكأنّهم يرونَ أنَّ لبدَنِها ما دام ذلك العرَضُ يعرِض لها، رائحةً لها حِدَّةٌ وبخار غليظ، يكون لذلك المَسُوط مُفسِداً.
من أثر العين الحاسدة
ولا تُبْعِدَنَّ هذا من قلبك تباعداً يدعُوك إلى إنكاره، وإلى تكذيب أهله، فإنْ أبيتَ إلاّ إنكارَ ذلك، فما تقول في فَرسٍ تحَصَّن تحتَ صاحبه، وهو في وسط موكِبه، وغبارُ الموكِب قد حالَ بين استبانةِ بعضهم لبعض، وليس في الموكب حِجْر ولا رمَكة، فيلتفتُ صاحبُ الحِصان فيرى حجراً أو رمكة، على قاب غَرَضٍ أو غَرَضين، أو غَلوة أو غلوتين، حدِّثني، كيف شمَّ هذا الفرس ريحَ تلك الفرسِ الأنثى، وما باله يدخل داراً من الدُّورِ، وفي الدَّار الأخرى حِجْرٌ، فيتحَصَّن مع دخوله من غير معاينة وسَمَاعِ صهيل وهذا الباب سيقع في موضعه إن شاء اللّه تعالى، وقال أبو سعيد عبد الملك بن قريب: كان عندنا رجُلان يَعينان الناس، فمرَّ أحدهما بحوضٍ من حجارة، فقال: تاللّهِ ما رأيتَ كاليوم قطَّ فتطاير الحوض فِلقَين، فأخذه أهلُه فضبَّبوه بالحديد، فمرَّ عليه ثانيةً فقال: وأبيك لقلَّما أضرَرْتُ أهلَكَ فيك فتطاير أربعَ فِلَق.
قال: وأمَّا الآخر، فإنَّه سمعَ صوتَ بَولٍ من وراء حائط فقال: إنَّك لشَرُّ الشَّخب فقالوا له: إنه فلانٌ ابنك، قال: وانقطاع ظهراه قالوا: إنه لا بأسَ عليه، قال: لا يبولُ واللَّه بَعْدَها أبداً قال: فما بال حتَّى مات، قال الأصمعيّ: ورأيت أنا رجلاً عَيُوناً فدُعيَ عليه فعَوِرَ، قال: إذا رأيتُ الشيءَ يُعجبني، وجدتُ حرارةً تخرجُ من عَيني، قال: وسمع رجلٌ بقرةً تُحلَب فأعجبه صوتُ شَخْبها، فقال: أيتَّهن هذه، فخافوا عينَه فقالوا: الفلانيّة لأخرى وَرَّوا بها عنها فهلكتا جميعاً: المُوَرَّى بها والمورَّى عنها، وقد حَمَل النَّاسُ كما ترى على العين ما لا يجوز، وما لا يسوغ في شيء من المجازات، وقولُ الذي اعورَّ: إذا رأيتُ الشيءَ يعجبني وجدتُ حرارةً تخرج من عيني، مِنْ أعظم الحجج في الفاصل من صاحب العين إلى المعين.
استطراد لغوي:
قال: ويقال إنَّ فلاناً لَعَيون: إذا كان يتشوَّف للناس ليصيَبهم بعين، ويقال عِنْتُ فْلاَنا أعِينه عيْناً: إذا أصبتَه بعين، ورجل مَعين ومعيون: إذا أصيب بالعين، وقال عبَّاس بن مِرداس:
قد كان قومُك يحسِبونكَ سيِّداً ... وإخال أنك سيِّدٌ معَيونُ
ويقال للعَيون: إنَّه لَنَفُوسٌ، وما أنفسَه، أي ما أشدَّ عينه، وقد أصابته نَفس أو عين.