كتـاب الـحيـوان
المؤلف : أبو عثمان عمرو بن بحر محبوب الكناني الليثي البصري، (159-255 هـ) أديب عربي من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي، ولد في البصرة وتوفي فيها.
كان ثَمَّةَ نتوءٌ واضحٌ في حدقتيه فلقب بالحدقي ولكنَّ اللقب الذي التصق به أكثر وبه طارت شهرته في الآفاق هو الجاحظ، ، عمّر الجاحظ نحو تسعين عاماً وترك كتباً كثيرة يصعب حصرها، وإن كان البيان والتبيين و كتاب الحيوان، البخلاء أشهر هذه الكتب. كتب في علم الكلام والأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء وغيرها.
تحدَّث الجاحظ في كتاب "الحيوان" عن العرب والأعراب، وأحوالهم وعاداتهم ومزاعمهم وعلومهم.. كما فصَّل بعض مسائل الفقه والدين، كذلك يحتوي على صفوةٍ مختارةٍ من حُرِّ الشعر العربي ونادِره. وإن أردتَ الأمثال، فهو قد جمع لكَ منها القدر الكبير. أو أحببتَ الحديث في البيان، ونقد الكلام، والشعر وجدتَ ما ترتاحُ إليه نفسكَ وتطمئِن ، ويعد كتاب الحيوان -وهو من مؤلفات الجاحظ الأخيرة - أول كتاب وضع في العربية جامع في علم الحيوان.. لأن من كتبوا قبل الجاحظ في هذا المجال أمثال الأصمعي وأبي عبيدة وابن الكلبي وابن الأعرابي والسجستاني وغيرهم.. كانوا يتناولون حيوانًا واحدًا مثل الإبل أو النحل أو الطير.. وكان اهتمامهم الأول والأخير بالناحية اللغوية وليس العلمية.. ولكن الجاحظ اهتم إلى جانب اللغة والشعر بالبحث في طبائع الحيوان وغرائزه وأحواله وعاداته.
مصدر الكتاب : موقع الوراق
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
وفي هذه الصفحة نص ما ذكره الجاحظ في كتابه الحيوان عن الجن
وتم إعادة وترتيب وصف الأسطر وتلوين وفهرسة العناوين بواسطة
موقع لقط المرجان في علاج العين والسحر والجان
الغول والسعلاة .
تزاوج الجن والإنس ويقولون.
تزيد الأعراب وأصحاب التأويل في أخبار الجن
مذاهب الأعراب وشعرائهم في الجن
أخبار وطرف تتعلق بالجن
رؤية الغيلان وسماع عزيف الجان
لطيم الشيطان
التشبيه بالجن
جبل الجن
من المثل والتشبيه بالجن
ما يزعمون أنه من عمل الجن
مواضع الجن
مراتب الجن والملائكة
مراتب الشجعان
استطراد لغوي
زواج الأعراب للجن
رؤية الجن
إيمان الأعراب بالهواتف
ظهور الشق للمسافرين
طعام الجن
رؤوس الشياطين
سكنى الجن أرض وبارِ
أثر عشق الجن في الصرع
الطاعون طعن من الشيطان
أحاديث في إثبات الشيطان
شياطين الشعراء
كلاب الجن
أرض الجن
استراق السمع
شياطين الشام والهند
مناكحة الجنِّ ومحالفتهم
مراكب الجن
شعر فيه ذكر الغول
جنون الجن وصرعهم
تعليل ما يتخيله الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان
رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن
الغول والسعلاة وأما قوله:
وتزوّجْتُ في الشَّبيبةِ غُولاً ... بغزال وصَدْقَتي زقُّ خَمْرِ
فالغُول اسمُ لكلِّ شيءٍ من الجن يعرضُ للسُّفّار، ويتلوّنُ في ضُروب الصُّور والثِّياب، ذكراً كان أو أنثى، إلاّ أنّ أكثر كلامهم على أنّه أنثى.
وقد قال أبو المطْراب عُبيدُ بن أيُّوبَ العنبريّ:
وحالَفْتَ الوحوشَ وحالَفْتني ... بقرب عُهودهنّ وبالبعادِ
وأمْسَى الذِّئبُ يرصُدُني مِخشّاً ... لخفّةِ ضربتي ولضعف آدي
وغُولاَ قفرةٍ ذكرٌ وأنثى ... كأنّ عَلَيْهمَا قِطعَ البجادِ
فجعل في الغِيلان الذَّكرَ والأُنثى، وقد قال الشَّاعر في تلوُّنها:
فما تدوم على حالٍ تكون بها ... كما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغُولُ
فالغول ما كان كذلك، والسِّعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغوَّل لتفتِنَ السُّفّار.
قالو: وإنما هذا منها على العَبث، أو لعلّها أن تفزّع إنساناً جميلاً فتغيِّرَ عقله، فتداخِلَه عند ذلك، لأنّهم لم يُسلَّطوا على الصَّحيح العقل، ولو كان ذلك إليهم لبدؤوا بعليّ بن أبي طالب، وحمزَة بن عبد المطلب وبأبي بكر وعُمر في زَمانهم وبغيلان والحسن في دهرهما وبواصل وعمرو في أيامهما.
وقد فرَق بين الغُول والسِّعلاة عُبيدُ بن أيُّوبَ، حيث يقول:
وساخرة منِّي ولو أنّ عَينَها ... رأتْ ما أُلاقيهِ من الهوْلِ جُنّتِ
أزلُّ وسِعلاةٌ وغولٌ بقَفْرةٍ ... إذا اللّيل وارَى الجنَّ فيه أرنّتِ
وهم إذا رأوا المرأة حديدة الطّرف والذِّهن، سريعة الحركة، ممشوقة مُمَحَّصة قالوا: سعلاة وقال الأعشى:
ورجال قَتْلى بجنْبَيْ أريكٍ ... ونساءٍ كأنهنَّ السَّعالي
تزاوج الجن والإنس
ويقولون: تزَّوج عمرو بن يربوعٍ السّعلاة، وقال الرَّاجز:
يا قاتلَ اللّهُ بني السّعلاةِ ... عمرو بن يَربوعٍ شِرارَ النَّاتِ
وفي تلوُّن الغُول يقول عَبَّاسُ بنُ مرداسٍ السُّلَميُّ:
أصابَت العام رِعلاً غولُ قومهم ... وَسْطَ البُيوتِ ولوْنُ الغُولِ ألوانُ
وهم يتأوَّلون قوله عز ذكره: " وَشَارِكْهُمْ في الأََمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ " .
وقوله عز وجل: " لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ " ، قالوا: فلو كان الجانّ لم يُصِب منهنَّ قَطّ، ولم يأتهنّ، ولا كان ذلك مما يجوز بين الجن وبين النساء الآدميات - لم يقل ذلك.
وتأوَّلوا قوله عزّ وجل: " وَأنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ " فجعل منهنَّ النِّساء، إذ قد جعل منهم الرِّجال، وقوله تبارك وتعالى: " أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي " .
وزعم ابنُ الأعرابيّ قال: دعا أعرابيٌّ ربهُ فقال: اللّهم إني أعوذُ بك منْ عفاريت الجن اللهمَّ لا تُشْرِكهمْ في ولدي، ولا جسدي، ولا دمي، ولا مالي، ولا تُدخلهم في بيتي، ولا تجعَلُهمْ لي شركاء في شيءٍ من أمر الدنيا والآخرة.
وقالوا: ودعا زُهير بن هُنيدة فقال: اللهمَّ لا تُسلطهم على نطفتي ولا جَسَدي.
قال أبو عبيدة: فقيل له: لمَ تدعو بهذا الدُّعاء قال: وكيف لا أدعو به وأنا أسمعُ أيُّوب النبي واللّه تعالى يخبر عنه ويقول: " واذكُرْ عَبْدَنا أيُّوب إذْ نادى رَبّهُ أَنِّي مَسَّنيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ " حتى قيل له: " اركُضْ بِرجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ باردٌ وَشرابٌ " ، وكيف لا أستعيذ باللَّه منه وأنا أسمع اللّه يقول: " الَّذين يأْكُلونَ الرِّبا لا يَقومُون إلاّ كما يقُومُ الَّذي يَتَخبَّطُهُ الشَّيْطانُ من المَسِّ " ، وأسمعه يقول: " وإذْ زَيَّن لَهُمُ الشَّيْطانُ أعمالَهُمْ وقالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وإنِّي جارٌ لَكُمْ " ، فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه، كما قال اللّه عزّ ذكره: " فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكصَ على عَقِبيْهِ وقَالَ إنّي بَريءٌ مِنكمْ إنّي أرى مَا لا تَرَوْنَ " ، وقد جاءهم في صورة الشَّيخ النّجدي، وكيف لا أستعيذ بالله منه، وأنا أسمع الله عز ذكره يقول: " ولقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيّنَّاهَا لِلنَّاظِرينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شيْطانٍ رَجِيمٍ، إلاَّ منِ اسْتَرقَ السَّمْعَ فأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبينٌ " ، وكيف لا أستعيذ باللّه منه وأنا أسمع اللّه تعالى يقول: " ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ وأسلْنا لَهُ عيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَديْهِ بإذْنِ ربِّهِ " ثم قال: " يَعْمَلَونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحاريبَ وتماثيلَ وجفانٍ كالجوابِ وقُدُورٍ راسِياتٍ " ، وكيف لا أدعو بذلك وأنا أسمع اللّه تعالى يقول: " قال عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ أنا آتِيكَ بهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ، وإنّي عَلَيْه لقويٌّ أمِينٌ " . وكيف لا أقول ذلك وأنا أسمع اللّه عزّ وجلَّ يقول: " ربِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبغي لأحدٍ مِنْ بَعْدي إنَّكَ أنْتَ الْوهّابُ، فسخَّرْنا لهُ الرِّيحَ تَجْري بِأمْرهِ رُخاءً حَيْثُ أصابَ، والشَّياطينَ كُلَّ بَنّاءٍ وغَوَّاصٍ، وآخرِينَ مُقرَّنينَ في الأصفادِ " .
تزيد الأعراب وأصحاب التأويل في أخبار الجن
والأعراب يتزيّدون في هذا الباب، وأشباهُ الأعراب يغلطون فيه، وبعضُ أصحابِ التأويل يجوّز في هذا الباب ما لا يجوز فيه، وقد قلنا في ذلك في كتاب النُّبُوّات بما هو كافٍ إن شاء اللّه تعالى.
مذاهب الأعراب وشعرائهم في الجن
وسيقع هذا الباب والجواب فيه تامّاً إذا صرنا إلى القول في الملائكة، وفي فرق ما بين الجن والإنس، وأما هذا الموضع فإنما مَغْزانا فيه الإخبارُ عن مذاهب الأعراب، وشعراءِ العرب، ولولا العلم بالكلام، وبما يجوز مما لا يجوز، لكان في دون إطباقهم على هذه الأحاديث ما يغلط فيه العاقل.
قال عُبيدُ بن أيُّوب، وقد كان جَوَّالاً في مجهول الأرض، لمَّا اشتد خوفه وطال تردُّدُه، وأبعد في الهرب:
لقد خِفْتُ حتَّى لو تمُرُّ حَمامَةٌ ... لقُلْتُ عَدُوٌّ أو طلِيعَة مَعْشَرِ
فإن قيل أمْنٌ قلتُ هذِي خديعةٌ ... وإن قيل خوفٌ قلتُ حَقّاً فشَمِّرِ
وخِفت خليلي ذا الصَّفاء وَرَابَني ... وقيل فلان أو فلانة فاحذرِ
فلله دَرُّ الغُول أيُّ رفيقةٍ ... لصاحِبِ قفْر خائِفٍ متقتِّر
أرنَّتْ بلحْن بعد لحن وأوقدَتْ ... حواليَّ نيراناً تلوح وتزهرُ
وأصبحت كالوحْشيِّ يتبَعُ ما خلا ... ويترك مَأبُوسَ البلادِ المدَعْثَرِ
وقال في هذا الباب في كلمة له، وهذا أولها:
أذِقني طَعْمَ الأمن أو سَلْ حقيقةًً ... عليَّ فإن قامتْ ففصِّل بنانيا
خلعتَ فؤادي فاستُطيرَ فأصبَحَتْ ... ترامى بي البيدُ القِفارُ تراميا
كأني وآجال الظِّباء بقفرةًٍ ... لنا نسبٌ نرعاه أصبح دانيا
رأين ضئيلَ الشَّخْصِ يظهَرُ مَرَّةًً ... ويخْفَى مراراً ضامِرَ الجسم عاريا
فأجْفَلنَ نفْراً ثمَّ قُلنَ ابنُ بلدةًٍ ... قليلُ الأذى أمْسى لكُنَّ مُصَافيا
ألا يا ظِباءَ الوَحْشِ لا تُشْهِرُنَّنيً ... وأخفِينني إذ كنتُ فِيكن خافيَا
أكلت عُرُوق الشَّرْي مَعْكُنَّ والْتَوىً ... بحَلقي نَوْرُ القَفْرِ حتَّى وَرانيا
وقد لقيتْ مني السِّباعُ بليّةًً ... وقد لاقت الغيلانُ مِنِّي الدّواهيا
ومنهنّ قد لاقيت ذاك فلم أكُنْ ... دجباناً إذا هَوْلُ الجبان اعترَانيا
أذقت المنايا بَعْضَهُنَّ بأسهميً ... وقدّدْن لحمي وامتَشَقْنَ ردائيا
أبِيتُ ضجيع الأسْوَدِ الجَون في الهُوَى ... كثيراً وأثناءُ الحشاش وسادِيَا
إذا هِجْن بي في جُحْرِهنَّ اكتنفننيً ... فليت سُلَيمانَ بن وَبْرٍ يرانيا
فما زِلت مُذ كْنتُ ابن عشرين حِجةً ... أخا الحرب مَجْنيّاً عليَّ وجانيا
ومما ذكر فيه الغيلان قولُه:
نقول وقد ألممتُ بالإنس لَمَّةً ... مُخضَّبةُ الأطرافِ خُرْسُ الخلاخِلِ
أهذا خليلُ الغُول والذِّئب والذي ... يهيمُ بِرَبّاتِ الحِجال الكوَاهلِ
رَأتْ خَلقَ الأدراس أشْعَثَ شاحباً ... على الجدْب بَسَّاماً كريمَ الشَّمائلِ
تعوَّدَ من آبائه فَتكاتِهم ... وإطعامَهُمْ في كلِّ غبْراء شامِلِ
إذا صاد صيداً لفَّه بضرامِهِ ... وشيكاً ولم ينْظر لنَصْب المراجلِ
ونهْساً كنَهْس الصقر ثم مِراسهُ ... بكفّيه رأسَ الشَّيخة المتمايل
فلم يسحب المِنديلَ بين جماعةٍ ... ولا فارداً مذ صاحَ بيْن القوابلِ
ومما قال في هذا المعنى:
علام تُرَى ليلى تعذِّب بالمُنى ... أخا قفَراتٍ كان بالذئب يأنسُ
وصار خليل الغُول بَعْد عداوةٍ صَفيّاً وربّتهُ القفارُ البسابسُ
وقال في هذا المعنى:
فلولا رجالٌ يا مَنيعُ رأيتَهم ... لهم خُلقٌ عند الجوار حَمِيدُ
لنالكُمُ مِني نكالٌ وغارةٌ ... لها ذنبٌ لم تدركُوه بعيدُ
أقلَّ بنو الإنسان حتَّى أغرتمُ ... على من يثير الجنّ وهي هجودُ
أخبار وطرف تتعلق بالجن
وقال ابن الأعرابي: وَعدت أعرابيَّةٌ أعرابيّاً أن يأتيها، فكمن في عُشَرةٍ كانت بقربهم، فنظر الزّوجُ فرأى شَبَحاً في العُشرَةَ، فقال لامرأته: يا هَنَتاهُ إنّ إنساناً لَيُطالعنا من العُشَرة قالت: مَهْ يا شيخُ، ذاك جانُّ العُشَرة إليك عنّي وعن ولَدِي قال الشيخ: وعنِّي يرحَمُك اللّه قالت: وعن أبيهم إن هو غطَّى رأسه ورقد، قال: ونام الشَّيخ، وجاء الأعرابي فسَفَع برجليها ثمّ أعطاها حتى رضيت.
وروى عن محمّد بن الحسن، عن مُجالِد أو عن غيره وقال: كنّا عند الشّعبي جُلوساً، فمرَّ حمّالٌ على ظهره دَنّ خَلٍّ، فلما رأى الشّعبيَّ وضع الدّنّ وقال للشعبي: ما كان اسمُ امرأة إبليس؟ قال: ذاك نكاحٌ ما شهدناه .
وأبو الحسن عن أبي إسحاق المالِكي قال: قال الحجاج ليحيى بن سعيد بن العاص: أخبرني عبدُ اللّه بن هلال صديق إبليس، أنّك تشبه إبليس قال: وما ينكر أنْ يكون سيد الإنس يُشبه سيد الجنِّ وروى الهيثم عن داود بن أبي هند، قال: سئل الشّعبي عن لحم الفيل، فتلا قولَه عزّ ذكره: " قُلْ لا أَجِدُ فيما أُوحِي إليّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يطْعَمُهُ إلاَّ أنْ يكُونَ مَيْتَةً أوْ دمَاً مَسْفُوحاً أوْ لَحْمَ خِنْزيرٍ " إلى آخر الآية، وسُئل عن لحم الشَّيطان فقال: نحن نرضى منه بالكَفَاف، فقال له قائل: ما تقولُ في الذِّبّان؟ قال: إن اشتهيته فكُلْهُ.
وأنشدوا قول أعرابي لامرأته:
ألا تمُوتين إنا نبتغي بدلاإن اللواتي يموِّتن الميامين
أم أنت لازلتِ في الدنيا معَمَّرَةً ... كما يُعَمَّر إبليسُ الشَّياطِين
وقال أبو الحسن وغيرُه: كان سعيدُ بن خالد بن عبد اللّه بن أسيد تصيبهُ مُوتة نصف سنة، ونصفَ سنةٍ يصح، فيحبو ويُعطي، ويكسُو ويَحمِل، فأراد أهلُه أنْ يعالِجُوه، فتكلّمت امرأةٌ على لسانه فقالت، أنا رُقيَّة بنت ملْحان سيِّد الجنِّ، واللّه أنْ لو علِمتُ مكانَ رجل أشرَف منه لعلِقْتُه واللّه لئن عالجتموه لأقتُلنّه فتركوا علاجه.
وتقول العرب: شيطان الحمَاطة، وغول القَفْرَة، وجانُّ العُشرَة، وأنشد:
فانصَلتَتْ لي مِثْلَ سعلاةِ العُشَرْ ... تروح بالوَيْل وتَغْدُو بالغِيَرْ
وأنشد:
يا أيُّها الضاغب بالغُمْلولْ ... إنّك غُولٌ ولدَتْكَ غولْ
الغُملول: الخمرَ من الأرض اختبأ فيه هذا الرجل، وضغب ضغبة الأرنب، ليفزعه ويوهمه أنّه عامر لذلك الخمر.
رؤية الغيلان وسماع عزيف الجان
من ادعى من الأَعراب والشعراء أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف الجان
وما يشبهون بالجن والشياطين، وبأعضائهم وبأخلاقهم وأعمالهم.
وأنشد:
كأنّه لَمَّا تدانى مَقْربُه ... وانقطعت أوْذامُه وكُرَبُهْ
وجاءت الخيلُ جميعاً تَذنِبُهْ ... شيطان جنّ في هواء يرقُبهْ
أذنب فانقضَّ عليه كوكبُهْ
وأنشد:
إنّ العُقَيليَّ لا تلقى له شَبهاً ... ولو صَبرْتَ لتلقاه على العِيسِ
بَيْنا تَراهُ عليه الخزُّ متَّكِئاً ... إذ مَرَّ يهدج في خَيش الكرابيس
وقد تكنَّفَهُ غُرَّامُه زَمَناً ... أشباهُ جِنٍّ عكوفٍ حَوْل إبليسِ
إذا المفاليسُ يوماً حاربُوا مَلِكاً ... ترى العُقيليّ منهمْ في كرادِيسِ
وهو الذي يقول:
أصبحتَ مَا لَكَ غيرُ جِلْدِكَ تَلبَسُ ... قَطرَ السَّماء وأنْتَ عارٍ مُفْلِسُ
وقال الخطفى:
يَرْفَعْنَ بالليل إذا ما أسْدفَا ... أعْناقَ جِنَّانٍ وهاماً رُجَّفا
وَعَنَقاً بعد الرسيم خيطفا
وأنشد ابنُ الأعرابي:
غناءً كليبياً تَرَى الجنَّ تبتغي ... صَدَاهُ إذا ما آب للجشنِّ آيبُ
وقال الحارث بن حلزة:
ربُّنا وابننا وأَفضل منْ يَمْ ... شي ومَنْ دونَ ما لَديْه الثَّناءُ
إرَميٌّ بمثْلهِ جالَتِ الج ... نُّ فآبتْ لخصْمها الأجْلاءُ
وقال الأعشى:
فإنِّي وما كَلَّفتُموني ورَبِّكم ... ليعلم من أمْسى أعَقَّ وأحْوَبا
لكالثَّور والجْنيُّ يضربُ ظهْرَهُ ... وما ذنْبُه أنْ عافَتِ الماء مَشْربا
وقال الزَّفيان العُوافيُّ واسمه عطاء بن أسِيد أحد بني عُوافةَ بن سعد:
بَيْن اللّها منه إذا ما مدّا ... مثلُ عزِيف الجن هَدّتْ هَدّا
وقال ذو الرُّمَّة:
قد أعسِفُ النَّازحَ المجهُولَ مَعْسِفُه ... في ظلِّ أغْضَف يَدْعو هامَهُ البُومُ
للجِنِّ باللّيل في حافاتها زَجَلٌ ... كما تناوَحَ يوم الريح عيشومُ
داويّةٍ ودُجَى ليل كأنَّهما ... يَمٌّ تراطَنُ في حافاته الرُّومُ
وقال:
وكمْ عَرَّستْ بعد السُّرى من مُعَرَّس ... به من كلام الجن أصواتُ سامِرِ
وقال:
كمْ جُبْتُ دُونَكَ من يَهْماء مُظْلمةٍ ... تِيهٍ إذا ما مُغَنِّي جِنَّةٍ سَمَرا
وقال:
ورَمل عزيف الجنِّ في عَقِداتِه ... هزيزٌ كتضْرابِ المغنِّين بالطّبْلِ
وقال:
وتِيهٍ خَبَطْنا غَوْلها وارتمى بنا ... أبو البعد من أرجائها المتطاوحُ
فلاةٌ لِصوت الجنِّ في مُنْكَراتها ... هزيزٌ وللأبوام فيها نوائحُ
وطولُ اغتماسي في الدُّجى كلما دعت ... من اللَّيل أصداءُ المِتَانِ الصوائحُ
وقال ذو الرّمة:
بلاداً يبيتُ البومُ يدعُو بناتِه ... بها ومن الأصداءِ والجنِّ سامرُ
وقال ذو الرمة:
وللوحشِ والجِنّانِ كُلَّ عشِيةٍ ... بها خِلْفةٌ من عازفٍ وبُغامِ
وقال الراعي:
ودَاوِيّةٍ غبراءَ أكثرُ أهْلِها ... عزِيفٌ وبُومٌ آخِرَ الليل صائحُ
أقرّ بها جأشِي تأوُّل آيةٍ ... وماضي الحسام غمِدُه متصايحُ
لطيم الشيطان
ويقال لمن به لقوة أو شتَر، إذا سُبَّ: يا لطيم الشيطان.
وكذلك قال عبيد اللّه بن زياد، لعمرو بن سعيد، حين أهوى بسيفه ليطعنَ في خاصرة عبد اللّه بن معاوية، وكان مستضعفاً، وكان مع الضّحّاك فأسِرَ، فلمّا أهوى له السيفَ وقد استردفه عبيدُ اللّه، واستغاث بعبيد اللّه، قال عبيد اللّه لعمرو: يدك يا لطيمَ الشيطان.
قولهم: ظل النعامة، وظل الشيطان ويقال للرَّجُل المفرط الطّول: يا ظلَّ النّعامة وللمتكبِّر الضخم: يا ظلَّ الشيطان كما قال الحجّاج لمحمد بن سَعْد بن أبي وقاص: بينا أنت، يا ظلَّ الشّيطان، أشدُّ النَّاس كِبْراً إذْ صِرتَ مؤذِّناً لفلان.
وقال جريرٌ في هجائه شَبّةَ بن عِقال، وكان مُفْرط الطّول:
فَضَح المنابرُ يَوْمَ يَسْلَحُ قائماً ... ظِلُّ النّعامةِ شَبّةُ بنُ عِقالِ
قولهم: ظل الرمح فأما قولهم: مُنينا بيوم كظلِّ الرمح فإنّهم ليس يريدون به الطول فقط، ولكنّهم يريدون أنّه مع الطول ضيق غيرُ واسع.
وقال ابن الطّثرية:
ويَوْمٍ كظِلِّ الرُّمح قَصَّر طُوله ... دَمُ الزِّقِّ عنّا واصطِفاقُ المَزَاهِرِ
قال: وليس يوجد لظلِّ الشخص نهاية مع طلوع الشّمس.
التشبيه بالجن
قال: وكان عمر بن عبد العزيز أوّلَ من نهى النّاسَ عن حمل الصِّبيان على ظهور الخيل يوم الحَلبة، وقال: تحمِلون الصِّبيان على الجِنَّان؟.
وأنشد في تشبيه الإنس بالجن لأبي الجُوَيرِية العَبْدي:
إنسٌ إذا أمنوا جِنٌّ إذا فزعوا ... مُرزَّؤُونَ بهاليلٌ إذا حَشدوا
وأنشدوا:
وقلتُ واللّه لنَرحَلنّا ... قلائصاً تحسِبهنَّ جنا
وقال ابن ذي الزوائد:
وَحَوْلي الشَّوْلُ رُزَّحاً شُسُباً ... بَكِية الدَّرِّ حينَ تُمْتَصَرُ
ولاذَ بي الكلبُ لا نُباحَ له ... يهِرُّ مُحْرنْجماً وينجَحِرُ
بُحُورُ خَفْضٍ لمنْ ألمَّ بهِمْ ... جِنٌّ بأرماحِهمْ إذا خطروا
وأنشدوا:
إنِّي امرؤٌ تابعَني شيطانِيَه ... آخيتهُ عُمْرِي وقد آخانِيه
يشْرَبُ في قَعْبي وقد سقانِيَه ... فالحمدُ للّه الذي أعطانِيَه
قرْماً وخُرْقاً في خُدودٍ واضيه ... تربَّعَتْ في عُقدٍ فالماويه
َبقلاً نَضِيداً في تِلاعٍ حاليه ... حتّى إذا ما الشّمْسُ مَرَّتْ ماضيه
قام إليها فتيةٌ ثمانيه ... فثوَّروا كلَّ مَرِيٍّ ساجيَه
أخلافها لِذي الأكف مالِيَه
جبل الجن
وقال ابنُ الأعرابي: قال لي أعرابي مَرّة مِن غنيٍّ وقد نزلت به، قال: وهو أخفُّ ما نزلتُ به و أطيَبُه، فقلت: ما أطيب ماءكم هذا، وأعْذى منزلكم قال: نعم وهو بعيدٌ من الخَير كله، بعيد من العراق واليمامة والحجاز، كثير الحيات، كثير الجنان فقلت: أتَروَنَ الجن؟ قال: نعم مكانُهم في هذا الجبل - وأشار بيدهِ إلى جبل يقال له سُواج قال: ثمَّ حدَّثني بأشياء.
شعر فيه ذكر الجن
وقال عبيد بن أوس الطائي في أخت عَدي بن أوس:
هلْ جاءَ أوساً ليلتي ونعيمها ... ومقامُ أوْسٍ في الخِباء الْمُشْرَجِ
ما زِلتُ أطوي الجِنّ أسمع حِسَّهُمْ ... حَتّى دَفَعْتُ إلى ربيبة هودجِ
فوضعت كفِّي عند مقطع خَصْرِها ... فَتَنَفّستْ بُهْراً ولمَّا تنهجِ
فتناولتْ رأْسي لِتعرفَ مَسّهُ ... بمخضّبِ الأطرافِ غيرِ مُشنّجِ
قالتْ بعَيْشِ أخي وحُرمة والدي ... لأُنَبِّهَنَّ الحيّ إنْ لم تخرجِ
فخرجتُ خيفةَ قومها فتبسَّمَتْ ... فعلمْتُ أنّ يمينها لم تلججِ
فلثمْت فاهاً قَابضاً بقُرونِها ... شُرْبَ النَّزيفِ ببرْدِ ماء الحشْرَج
وأنشدني آخر:
ذَهَبْتُمْ فعُذْتمُ بالأمير وقُلْتُمُ ... تركْنا أحاديثاً ولحماً مُوضعاً
فما زَادَني إلاّ سناءً ورِفعة ... ولا زادكُمْ في القوم إلاّ تخشّعا
فما نفرتْ جِنِّي ولا فُلَّ مِبردِي ... وما أصبحت طيري من الخوفِ وُقَّعَا
وقال حسّانُ بنُ ثابت، في معنى قولِه: وللّه لأضربنَّه حتَّى أنزع من رأسِه شيطانه، فقال:
وداوِيةٍ سَبسَبٍ سَمْلَقٍ ... مِنَ البيِد تَعْزِفُ جنّانُها
قطَعْتُ بِعَيْرانةٍ كالفَنِي ... قِ يَمْرَحُ في الآل شَيْطانُها
فجمع في هذا البيت تثبيت عزيف الجن، وأنَّ المراح والنشاط والْخُيلاء والغرب هو شيطانُها
وأبينُ منْ ذلك قولُ منظور بن رواحة:
أتاني وأهْلي بالدِّماخ فغمرةٍ ... مَسبُّ عويفِ اللؤم حيَّ بني بدرِ
فلمّا أتاني ما يقولُ ترقّصت ... شياطينُ رأسي وانْتشْينَ من الخَمْرِ
من المثل والتشبيه بالجن
ومن المثَل والتّشبيه قولُ أبي النّجم:
وقام جِنِّيُّ السَّنام الأميَلِ ... وامْتَهَدَ الغاربَ فِعْلَ الدُّمَّلِ
وقال ابن أحمر:
بهَجْلٍ من قساً ذفِر الخُزامَى ... تداعى الجربياءُ به الحنينا
تكسَّر فوقه القَلَعُ السَّوارِي ... وجُنَّ الخازِبازِ به جُنونا
وقال الأعشى:
وإذا الغيثُ صَوْبُه وضع القِدْ ... حَ وجُنَّ التِّلاعُ والآفاقُ
لم يزدهم سفاهَةً شُرُبُ الْخمْ ... رِ ولا اللهوُ بينهُم والسِّباق
وقال النابغة:
وخَيِّس الجِنَّ إنِّي قد أذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ
ما يزعمون أنه من عمل الجن
وأهلُ تدمُر يزعمون أنّ ذلك البناء بُنيَ قبل زمن سليمان، عليه السلام، بأكثرَ مما بيننا اليوم وبين سليمان بن داود عليهما السلام قالوا: ولكنّكم إذا رأيتمْ بنياناً عجيباً، وجهلتم موضع الحِيلة فيه، أضفْتُموه إلى الجنِّ، ولم تعانوه بالفكر.
وقال العَرْجيُّ:
سدّتْ مسامِعها بفرْجِ مراجِل ... مِنْ نَسْج جِنٍّ مثله لا يُنسَجُ
وقال الأصمعيُّ: السيوف المأثورة هي التي يقال إنها من عمل الجن والشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام، فأمّا القوارير والحمامات، فذلك ما لا شك فيه، وقال البعيث:
بَنَى زِيادٌ لذِكْرِ الله مَصْنَعَةً ... من الْحِجارة لم تُعملْ من الطِّينِ
كأنَّها غير أنّ الإنسَ ترفَعُها ... مما بنتْ لسليمانَ الشياطينُ
وقال المقنَّع الكِنْديُّ:
وفي الظّعائِنِ والأحْداجِ أمْلَحُ منْ ... حَلَّ العِراقَ وَحَلَّ الشامَ واليَمنَا
جِنِّيّةٌ مِنْ نِسَاءِ الإنسِ أحسَنُ مِنْ ... شَمْسِ النّهارِ وبَدْرِ اللّيلِ لو قُرِنَا
مَكتومةُ الذكرِ عندي ما حيِيتُ له ... قَدْ لَعَمْري مَلِلتُ الصَّرمَ والحَزَنَا
وقال أبو النَّجم:
أدرك عقلاً والرهان عمله ... كأنّ تُرْبَ القاع حينَ تَسحَلُه
صيقُ شياطينَ زَفَتْهُ شَمْألهْ
وقال الأعشى في المعنى الأوّل، من بناء الشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام:
أرى عَادِيا لمْ يمنع الموْتَ رَبُّه ... ووَرْدٌ بتيماءِ اليهوديِّ أبلقُ
بناهُ سُليمانُ بنُ داودَ حِقْبةً ... له جَنْدَلٌ صُمٌّ وطيٌّ موثَّقُ
مواضع الجن
وكما يقولون: قنفذ بُرْقة، وضبُّ سحاً، وأرنب الخلَّة، وذئب خَمر فيفرقون بينها وبينَ ما ليست كذلك إمَّا في السِّمن، وإمّا في الخُبث، وإمَّا في القوة - فكذلك أيضاً يفرقون بين مواضع الجن، فإذا نَسبُوا الشّكل منها إلى موضعٍ معروف، فقد خَصُّوه من الخُبث و القُوة والعَرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم، قال لبيد:
غُلْب تَشَذّرُ بالذُّحولِ كأنّها ... جنُّ البَدِيِّ رواسِياً أقدامُها
وقال النّابغة:
سهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهُمْ ... تحتَ السَّنَوَّرِ جِنَّةُ البقّارِ
وقال زهير:
عَلَيْهِنَّ فِتْيانٌ كَجِنّةِ عَبقرٍ ... جديرون يوماً أن يُنيفوا فيَسْتعلوا
وقال حاتم:
عليهنّ فِتْيانٌ كَجِنّة عبقر ... يهزُّون بالأيدي الوشِيجَ المقوّما
ولذلك قيل لكلِّ شيء فائق، أو شديدٍ: عبقري.
وفي الحديث، في صفة عمر رضي اللّه عنه فلم أر عبقريّاً يفري فَرِيّه، قال أعرابي: ظلمني واللّه ظُلماً عبقريّاً.