تمضي الأيـام .. لكن الذكرى تبقــى الماضــي مضـى .. و المضارع يمضي
لذلك فلنطـوي صفحـة الماضـي و لنبــدأ بصفحات بيضــاء جديــدة
و لنــجعل من من الذكريات الــوانا في كتابنا و لنــملئ صــفاحتنا البيــضاء بســطور ذهبية
تعــكس جمالها على منتــدانا هذا ..
الحمـد لله وحده نحمده و نشكره و نستعـينه و نستـغفره و نعـود بالله
مـن شـرور أنـفسنا و من سيـئات أعمالنا ..
من يـهده الله فلا مظل لـه و مـن يظـلل فلن تـجد له ولياً مرشدا ..
و أشـهد ألا إلاه إلا الله وحده لا شريك له و أن محــمداً عبده و رسـوله صــلى الله عليه و
سلم و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسـان إلى يوم الدين ..
ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الـخـبــيـر ..
ربـنـا لا فــهم لـنا إلا ما فهــمتنا إنــك أنـت الجــواد الـكـريـم .
فقهُ
السِّيرَة النَّبَويِّة
لِلدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية وفقهها مجرد الوقوف على الوقائع التاريخية ولا سرد ما طرف أو جمل من القصص و الأحداث ولذا فلا ينبغى أن نعتبر دراسة فقه السيرة النبوية من جملة الدراسة التاريخية شأنها كشأن الإطلاع على سيرة خليفة من الخلفاء أو عهد من العهود التاريخية الغابرة وإنما الغرض منها أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية فى مجموعها متجسدة فى حياته صلى الله عليه وسلم بعد أن فهمها مبادىء وقواعد و أحكام مجردة فى الذهن أى أن دراسة السيرة النبوية ليست سوى عمل تطبيقى يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة فى مثلها الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم.
العَدَدُ التَّاسِع!؟
رحلته الأولى الى الشام ثم كدحه فى سبيل الرزق
ولما تم له صلى الله عليه وسلم من العمر إثنتا عشرة سنة ’ سافر عمه أبو طالب الى الشام فى ركب للتجارة ’ فأخذه معه . ولما نزل الركب ( بصرى ) مرّوا على راهب هناك يقال له ( بحيرا ) وكان عليماً بالإنجيل خبيراً بشئون النصرانية وهناك أبصر بحيرا النبى صلى الله عليه وسلم ’ فجعل يتأمله ويكلمه ’ ثم إلتفت الى أبى طالب فقال له : ما هذا الغلام منك ؟ فقال: إبنى ( وكان ابو طالب يدعوه بابنه لشدة محبته له وشفقته عليه ) فقال له بحيرا ما هو بابنك وما ينبغى أن يكون أبو هذا الغلام حياً . فقال : هو ابن أخى . قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات وأمه حبلى به . قال بحيرا : صدقت ’ فارجع به بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه هنا ليبلغنه شراً ’ فإنه كائن لإبن أخيك هذا شأن عظيم ’ فأسرع به أبو طالب عائدا الى مكة.
ثم أخذ رسول الله يستقبل فترة الشباب من عمره فبدأ بالسعى للرزق وراح يشتغل برعى الغنم ’ ولقد قال عليه الصلاة و السلام عن نفسه فيما بعد : ( كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة ) . وحفظه الله من كل ما قد ينحرف إليه الشباب من مظاهر اللهو و العبث.
قال عليه الصلاة و السلام فيما يرويه عن نفسه : ( ما هممت بشىء مما كانوا فى الجاهلية يعملونه غير مرتين ’ كل ذلك يحول الله بينى وبينه ’ ثم ما هممت به حتى أكرمنى الله بالرسالة ’ قلت ليلة للغلام الذى يرعى معى بأعلى مكة لو أبصرت لى غنمى حتى أدخل مكة أسمر بها كما يسمر الشباب ’ فقال : أفعل ’ فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً فقلت ما هذا ؟ فقالوا عرس ’ فجلست أسمع ’ فضرب الله على أذنى ’ فنمت فما أيقظنى إلاّ حرّ الشمس فعدت الى صاحبى ’ فسألنى فأخبرته ’ ثم قلت له ليلة اخرى مثل ذلك ودخلت مكة فأصابنى مثل أول ليلة ’ ثم ما هممت بعده بسوء.)
العبر و العظات :
يدل حديث بحيرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو حديث رواه عامة علماء السير ورواتها وأخرجه الترمذى مطولا من حديث أبى موسى الأشعرى على أن أهل الكتا ب من يهود و نصارى ’ كان عندهم علم ببعثة النبى صلى الله عليه وسلم ومعرفة بعلاماته ’ وذلك بواسطة ما جاء فى التوراة و الإنجيل من خبر بعثته وبيان دلائله و أوصافه ’ والدلائل على ذلك كثيرة مستفيضة.
فمنها ما رواه علماء السيرة من أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس و الخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ويقولون: إن نبيا سيبعث قريبا سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد و إرم ولما نكثوا عهدهم أنزل الله فى ذلك قوله ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) البقرة 89.
وروى القرطبى وغيره أنه لما نزل قول الله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ’ وإن فريقاى منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) البقرة 136 سأل عمر بن الخطاب عبد الله بن سلام وقد كان كتابيا فأسلم ’ أتعرف محمداً كما تعرف إبنك ؟ فقال نعم وأكثر . بعث الله أمينه فى سمائه الى أمينه فى أرضه بنعته فعرفته ’ أما ابنى فلا أدرى ما الذى قد كان من أمه . ولقد كان سبب إسلام سلمان الفارسى تتبع خبر النبى صلى الله عليه وسلم وصفاته من الإنجيل و الرهبان و علماء الكتاب.
ولا ينافى هذا أن كثيرا من أهل الكتاب ينكرون هذا العلم ’ وأن الأناجيل المتداولة خالية عن الإشارة الى ذكر النبى صلى الله عليه وسلم . فمن المعلوم بداهة ما تقلب على هذه الكتب من أيدى التبديل و التغييرالمتلاحقة وصدق الله إذ يقول فى محكم تبيانه : ( ومنهم أميّون لايعلمون الكتاب إلاّ أمانىّ وإن هم إلاّ يظنون ’ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ’ ليشتروا به ثمناً قليلا ’ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) البقرة 78-79.
- أما إقباله على رعى الأغنام لقصد إكتساب القوت و الرزق ففيه ثلاث دلائل هامة :
الأولى : الذوق الرفيع و الإحساس الدقيق اللذان جمّل الله بهما نبيه صلى الله عليه وسلم لقد كان عمه يحوطه بالعناية التامة ’ وكان له فى الحنو و الشفقة كالأب الشفوق ’ ولكنه صلى الله عليه وسلم ما إن آنس فى نفسه قدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب ’ ويجهد جهده لرفع بعض ما يمكن رفعه من مؤنة الإنفاق عن عمه . وربما كانت الفائدة التى يجنيها من وراء عمله الذى إختاره الله له ’ فائدة قليلة غير ذات أهمية بالنسبة لعمه أبى طالب ولكنه على كلّ تعبير أخلاقى رفيع عن الشكر ’ وبذل للوسع ’ وشهامة فى الطبع ’ وبر فى المعاملة.
الثانية : وتتعلق ببيان نوعية الحياة التى يرتضيها الله لعباده الصالحين فى دار الدنيا ’ لقد كان سهلا على القدرة الإلهية أن تهىء للنبى صلى الله عليه وسلم ’ وهو فى صدر حياته ’ من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعياً وراء القوت . ولكن الحكمة الإلهية تريد منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما إكتسبه بكد يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبنى جنسه ’ وشر المال ما أصابه الإنسان وهو مستلق على ظهره دون أن يرى أى تعب فى سبيله ’ ودون أن يبذل أى فائدة للمجتمع فى مقابله.
الثالثة : إن صاحب أى دعوة ’ لن تقوم لدعوته أى قيمة فى الناس إذا ما كان كسبه ورزقه من وراء دعوته أو على أساس من عطايا الناس وصدقاتهم ’ ولذا فقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أحرى الناس كلهم بأن يعتمد فى معيشته على جهده الشخصى أو مورد شريف لا إستجداء فيه حتى لا تكون عليه لأحد من الناس منّة أو فضل فى دنياه فيعيقه ذلك عن أن يصدع بالحق فى وجهه غير مبالى بالموقع الذى تقع من نفسه . وهذا لامعنى وإن يكون قد خطر فى بال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه الفترة ’ إذ أنه لم يكن يعلم بما سيوكل إليه من شأن الدعوة و الرسالة الإلهية - غير أن هذا المنهج الذى هيأه الله له ينطوى على هذه الحكمة ويوضح أن الله تعالى قد أراد أن لا يكون فى شىء من حياة الرسول قبل البعثة ما يعرقل سبيل دعوته أو يؤثر عليها أى تأثير سلبى فيما بعد البعثة.
- وفيما قصه النبى صلى الله عليه وسلم عن نفسه فى خبر حفظ الله إيّاه من كل سوء منذ صغره وصدر شبابه ’ ما يوضح لنا حقيقتين كل منهما على جانب كبير من الأهمية:
الأولى : أن النبى صلى الله عليه وسلم كان متمتعا بخصائص البشرية كلها ’ وكان يجد فى نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميولات الفطرية التى إقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها ’ فكان يحس بمعنى السمر و اللهو ويشعر بما فى ذلك من متعة ’ وتحدثه نفسه لو تمتع بشىء من ذلك كما يتمتع الآخرون.
الثانية: - أن الله عز وجل قد عصمه مع ذلك من جميع مظاهر الإنحراف وعن كل ما لا يتفق مع مقتضيات الدعوة التى هيأه الله لها ’ فهى حتى عندما لا يجد لديه الوحى أو الشريعة التى تعصمه من الإستجابة لكثير من رغائب النفس ’ يجد عاصما آخر خفيا يحول بينه وبين ما قد تتطلع إليه نفسه مما لا يليق بمن هيأته الأقدار لتتميم مكارم الأخلاق وإرساء شريعة الإسلام.
وفى إجتماع هاتين الحقيقتين لديه صلى الله عليه وسلم دليل واضح على أن ثمة عناية إلهية خاصة تسيره وتأخذ بيده بدون وساطة الأسباب العادية كوسائل التربية و التوجيه ’ ومن ذا الذى يوجهه فى طريق هذه العصمة وكل الذين حوله من أهله وبنى قومه وجيرانه ’ غرباء عن هذا الطريق ’ ضالون عن هذه الوجهة ؟
لا جرم إذاً أن العناية الإلهية الخاصة التى جعلت لشباب النبى صلى الله عليه وسلم طريقا دقيقاً من النور يمخر عباب ظلام الجاهلية ’ من أعظم الآيات الدالة على معنى النبوة التى خلقه الله لها وهيأه لحمل أعبائها ’ وعلى أن معنى النبوة هو الأساس فى تكوين شخصيته واتجاهاته النفسية و الفكرية و السلوكية فى الحياة.
وكان من اليسير أن يولد الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم ’ وقد إنتزعت من نفسه كل هذه الدوافع الغريزية إلى التمتع بالشهوات و الأهواء ’ فلا يجد فى نفسه ما يدفعه أصلا الى ترك أغنامه أمانة عند زميله ليهبط الى بيوت مكة فيبحث بينها عن قوم يسمرون أو يلهون ويمرحون . غير أن ذلك لا يدل حينذاك على أكثر من شذوذ فى تركيبه النفسانى ’ وهى ظاهرة يوجد لها نماذج فى كل عصر وقوم ’ وإذاً فليس ثمة ما يدل على العناية الخفية التى تصرفه عما لا يليق رغم وجود الدوافع الغريزية نحوه ’ وإنما أرادت حكمة الله عز وجل أن يتبدى للناس من هذه العناية الإلهية بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ما يسهل عليهم أسباب الإيمان برسالته ويبعد عن أفكارهم عوامل الريب فى صدقه.