السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعريفه : هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهراً فينظر فيهما بالتوفيق بينهما أو بترجيح أحدهما على الآخر أو غير ذلك.
وفي الحقيقة لا تعارض آيةٌ آيةً ، ولا آيةٌ حديثاً صحيحاً ، ولا يعارض حديثٌ صحيحاٌ آخر مثله ،ولكن التعارض الذي قد يبدو بين النصوص إنما هو تعارض في الظاهر لا في الحقيقة لأن الجميع من الآيات والأحاديث من عند الله وما دام الأمر كذلك فإن الشرع لا يتناقض ولا يعارض بعضه بعضاً ، وقد قال الله عز وجل:
(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
ولهذا قال الإمام أبو بكر ابن خزيمة رحمه الله:
" ليس ثم حديثان متعارضان من كل وجه؛ ومن وجد شيئاً من ذلك فليأتي لأؤلف له بينهما".
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاب عظيم في بابه واسمه :" درء تعارض العقل والنقل" .
ومختلف الحديث من أهم أنواع علوم الحديث ، ويضطر إلى معرفته جميع العلماء.
والذي يعنى بالقيام به الأئمة الجامعون بين صناعتي الحديث والفقه، وهم الغواصون على المعاني الدقيقة .
وينقسم مختلف الحديث إلى قسمين:
القسم الأول :ما يمكن الجمع فيه بين الحديثين،حيث يمكن القول بهما معأ.
ومثاله: حديث: " لا عدوى ولا طيرة " .
مع حديث: " لا يورد ممرض على مصح " .
وحديث، " فر من المجذوم فرارك من الأسد " .
ووجه الجمع بينهما: أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن الله تبارك وتعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا لأعدائه مرضه.
ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب: ففي الحديث الأول: نفى صلى الله عليه وسلم ما كان يعتقده الجاهل من أن ذلك يعدي بطبعه، ولهذا قال: " فمن أعدى الأول " . وفي الثاني: أعلم بأن الله سبحانه جعل ذلك سببأ لذلك، وحذر من الضرر الذي يغلب وجوده عند وجوده، بفعل الله سبحانه وتعالى.
القسم الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمع بينهما ،وذلك على ضربين :
أحدهما: أن يظهر كون أحدهما ناسخأ والآخر منسوخأ، فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ.
والثاني: أن لا تقوم دلالة على أن الناسخ أيهما والمنسوخ أيهما ، فيلجأ حينئذ إلى الترجيح، و يعمل بالأرجح منهما والأثبت من خلال طرق الترجيح المتعددة .
طرق الترجيح بين النصوص المتعارضة:
يكون الترجيح في الأخبار التي ظاهرها التعارض من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول يتعلق بالسند .
والوجه الثاني يتعلق بالمتن.
والوجه الثالث يتعلق بالترجيح بأمر خارجي .
وأما الأول : الترجيح بالسند فمن عدة اعتبارات :
أولا : الترجيح بكثرة الرواية .
ثانيا : الترجيح بثقة الراوي ، وضبطه وقلة غلطه .
ثالثا : الترجيح بورع الراوي وتقاه لشدة تحرزه فتقدم روايتة على رواية من هو دونه في ذلك .
رابعا : الترجيح بأن يكون الراوي صاحب القصة كحديث ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال .
خامسا : الترجيح أن يكون الراوي مباشراً للقصة كحديث أبي رافع - رضي الله عنه - بذلك ، لأنه هو السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة رضي الله عنه . فكلاهما أي صاحب القصة ميمونة والمباشر لها وهو أبو رافع يرجحان على حديث ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم .
وللأصوليين في الترجيح باعتبار السند أمور كثيرة منها: علو السند ، فالسند الذي هو أعلى يقدم على غيره لأن قلة الوسائط بين المجتهد وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أرجح من كثرتها لأن قلة الوسائط يقل معها احتمال النسيان والاشتباه والزيادة والنقص .
ومنها : السلامة من البدع فالراوي غير البدعي أرجح من الراوي البدعي .
ومنها : فقهه في الباب المتعلق به المروي ، فالفقيه في البيوع مثلا يقدم خبره على غير الفقيه فيها .
وكذا يقدم زائد الفقه على غيره ، ولذا قالت المالكية يقدم خبر رواه ابن وهب في الحج على ما رواه ابن القاسم فيه لأنه أفقه منه فيه ، وإن كان ابن القاسم أفقه منه في غيره .
ويقدم عندهم العالم باللغة على غير العالم بها ، والعالم بالنحو على غير العالم به ، لأن الخطأ منهما في فهم مقاصد الكلام أقل ، ويقدم الفطن على من دونه .
ويقدم المشهورة بالعدالة على المعدل بالتزكية .
ويقدم الراوي الذي زكاه المجتهد باختباره اياه على المزكى عنده بالاخبار إذ ليس الخبر كالعيان .
ويقدم من زكى تزكية صريحة على من زكى تزكية ضمنية كالحكم بشهادته والعمل براويته.
ويقدم من زكاه جماعة كثيرون على من زكاه واحد مثلاً .
ويقدم غير المدلس على المدلس .
ويقدم حافظ الخبر الذي يسرده متتابعاً على من ليس كذلك ، وهو من يتخيل اللفظ ثم يتذكره ويؤديه بعد تفكر وتكلف ، ومن لا يقدر على التأدية أصلاً لكن إذا سمع اللفظ علم أنه مويه عن فلان .
ويقدم عندهم الذكر عن الأنثى إلا إذا علم أنها أضبط من الذكر, فتقدم عليه ، وكذلك إن كانت صاحبة القصة قدمت على الذكر ، قال بضعهم : الأنثى والذكر على السواء ، ولا يرجح عليها إلا بما يرجح به الرجل على الرجل، وفصل بعض العلماء فقال: يرجح الذكر في غير أحكام النساء بخلاف أحكامهن كالحيض والعدة فيرجحن فيها على الذكور لأنهن أضبط فيها.
ويقدم الذي كانت روايته أوضح في إفادة المروي على الذي في روايته خفاء كالأجمال، ولأجمل ذلك يقدم الروي بالسماع على الروي بالإجازة لأن السماع طريق واضح في إفادة المروي بيان تفصيله بخلاف الإجازة لما فيها من الأحمال.
وتقدم رواية المكلف وقت التحمل على رواية من هو صبي وقت التحمل . والحال أنه أدى بعد البلوغ للاختلاف في المحتمل قبل البلوغ، وقدم الاختلاف في التحمل بعد البلوغ لأن ما لا خلاف فيه يقدم على ما فيه خلاف وان كان المشهور المعروف قبول رواية من تحمل قبل البلوغ إذا كانت التأدية بعد البلوغ.
ويقدم راوي الحديث بلفظه على الراوي بالمعنى لسلامة المروي باللفظ عن احتمال وقوع الخلل في المروي بالمعنى ويقدم خبر الراوي الذي لم ينكر شيخه أنه حدثه على خبر من أنكر شيخه الذي روى عنه روايته له عنه، وان قلنا بأن إنكاره لا يضر.
ويقدم ما في الصحيحين أو أحدهما على ما ليس فيهما إلى غير ذلك.
وكثير مما ذكر من المرجحات باعتبار السند لا تخلو من خلاف، ولكن له كله وجه من النظر.
الوجه الثاني من الترجيح الترجيح بأمر يعود إلى المتن وقد ذكر العلامة الشيخ الشنقيطي في كتابه "مذكرة أصول الفقه"عدة مرجحات من هذا النوع منها :
اعتضاد أحد الدليلين المتعارضين بكتاب أو سنة وغير ذلك من الأدلة ، كأحاديث صلاة الصبح فإن في بعضها التغليس بها أي فعلها في بقية الظلام، وفي بعضها الأسفار بها، فتعضد أحاديث التغليس بعموم قوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " ،
وكأن يختلف في وقف أحد الخبرين على الراوي والآخر يتفق على رفعه.
وكأن يكون راوي أحدهما قد نقل عنه خلافه فتتعارض روايتاه، ويبقى الآخر متصلاً ، فالمتصل أولى لأنه متفق على الاحتجاج به وذلك مختلف فيه.
ومنها كثرة الأدلة فالخبر الذي اعتضد بأدلة كثيرة مقدم على ما اعتضد بأقل من ذلك من الأدلة.
ومنها أن يكون المتن قولاً فهو مقدم على الفعل كما أن الفعل مقدم على التقرير.
وإنما كان القول أقوى من الفعل لاحتمال الفعل الاختصاص به صلى الله عليه وسلم. ويفهم منه أن ليس كل قول أقوى بل إذا احتمل القول الاختصاص فلا يكون أقوى من الفعل .
ومنها الفصاحة ، فالخبر يقدم على غير الفصيح يقدم على غير الفصيح للقطع بأن غير الفصيح مروي بالمعنى لفصاحته صلى الله عليه وسلم ولا عبرة بزيادة الفصاحة ، فلا يقدم الخبر الأفصح على الفصيح . وقيل يقم عليه لأنه صلى الله عليه وسلم أفصح العرب فيعد نطقه بغير الأفصح فيكون مرياً بالمعنى فيتطرق إليه الخلل وأجيب بأنه يعد في نطقه بغير الأفصح لأنه كان يخاطب العرب بلغاتهم.
ومنها الزيادة ، فالخبر المشتمل على الزيادة يقدم على غيره لما فيه من زيادة العلم كخبر التكبير في العيد سبعاً مع خبر التكبير فيه أربعاًًً، خلافاً لمن قدم الأقل كالحنفية.
ومنها ورود أحد الخبرين على علو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وقوته، ودلالة الآخر على الضعف وعدم القوة، فما اشعر بعلو شأنه مقدم على غيره لأن الشعر بعلو شأنه معلوم أنه هو المتأخر .
ومنها أن يتضمن الخبر قصة مشهورة بأنه يقدم على المتضمنة قصة خفية لأن القصة المشهورة يبعد الكذب فيها ، قال القرافي .
ومنها ذكر السبب فالخبر المذكور فيه السبب مقدم على ما ليس كذلك لاهتمام راوي الأول به ، واهتمامه دليل على كمال ضبطه للمروي لأنه يترتب عليه عادة .
وأيضاً فإن علم السبب يعين على فهم المراد ، ولأجل ذلك اعتنى المفسرون بذكر أسباب نزول الآيات .
ومنها أن يكون أحد الخبرين رواه رواية عن شيخة بدون حجاب مع أن الثاني رواه من وراء حجاب كرواية القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة عتقت في حال كون زوجها عبداً على رواية الأسود بن يزيد عنها أنه حراً ، لأن القاسم كان محرما لها لكونها عمته ، وكان يسمع منها بدون حجاب بخلاف الأسود .
ومنها الخبر المدني فانه مقدم على الخبر المكي لتأخره عنه . ومعلوم أن المدني ما روى بعد الشروع في الهجرة ، والمكي ما روى قبل الشروع فيها ، فيشمل المدني ما ورد بعد الخروج من مكة وقبل الوصول إلى المدينة في سفر الهجرة . هذا هو الاصطلاح المشهور في المدني والمكي ولذا كان المشهور عندهم في آية : " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " إنها مدنية مع أنها نزلت بالجحفة في سفر الهجرة كما قاله غير واحد .
ومنها التهديد ، فالخبر الذي فيه تهديد وتخويف مقدم على ما ليس كذلك ، ومثل له بعضهم بحديث عمار رضي الله عنه ، من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم . ففي الحديث تخويف من صوم يوم الشك بأنه معصية للرسول صلى الله عليه وسلم فيقدم هذا الحديث على الأحاديث المرغبة في صوم النفل .
فان قيل : التخويف المذكور من كلام الراوي فليس ترجيحاً باعتبار حال المتن ، فالجواب أن حكمه الرفع ، إذ لا يقال من جهة الرأي ، نعم للناظر أن يقول : في التمثيل المذكور نظر ، لأنه تقديم خاص على عام فلا تعارض أصلاً ، ويمكن أن يجاب بان الخاص إنما رجح على العام في خصوص ما تعارضا فيه فقط والله تعالى أعلم .
ومنها عدم التخصيص ، فالعام الذي لم يدخله تخصيص ، مقدم على العام الذي دخله تخصيص ، وهذا رأي جمهور أهل الأصول ، ويقول الشيخ الشنقيطي : لم أعلم أحداً خالف فيه إلا صفي الدين الهندي ، والسبكي .
ويقدم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة على الصحيح لضعف مفهوم المخالفة بالخلاف في حجتيه كما تقدم . وشذ من قال بتقديم مفهوم المخالفة ، ولا يخفى ضعف قوله وبعده عن الصواب.
الوجه الثالث : الترجيح بأمر خارجي
وقد ذكر له الشيخ الشنقيطي رحمه الله عدة أمور منها :
يقدم الحاظر على المبيح - والحظر المنع - ومثال تقديم الحاظر على المبيح تقديم عموم قوله : (وأن تجمعوا بين الأختين )، المقتضي بعمومه منع الأختين بملك اليمين على عموم .. (أو ما ملكت أيمانهم ) الشامل بعمومه للأختين بملك اليمين ، وهذا مبيح وذلك حاظر فقد الحاظر على المبيح .
ووجه تقديم الحاظر على المبيح ، أن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام ، وزاد بعض الأصوليين تقديم الخبر الدال على الأمر على الدال على الإباحة .
ووجه ذلك هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب ، وأن الخبر الدال على النهي مقدم على الدال على الأمر ، ووجهه عندهم أن درئ المفاسد مقدم على جلب المصالح ، ومن أمثلته عند القائل به : ترك تحية المسجد في وقت النهي .
ومنها كون أحد الخبرين ناقلاً عن حكم الأصل ، ومثاله حديث "من مس ذكره فليتوضأ" . مع حديث " وهل هو إلا بضعة منك بأن هذا الأخير نافياً لوجوب الوضوء موافق للبراءة الأصلية ، والخبر الموجب له ناقل عن حكم الأصل ، وعكس بعضهم فرجح المبقي على الأصل بالبراءة الأصلية ، والمشهور عند الأصوليين الأول .
وكذلك رواية الإثبات ، فإنها مقدمة على رواية النفي ومثاله : حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة مع حديث أنه لم يصل فيها ، وحديث أن المتمتعين مع النبي صلى الله عليه وسلم سعوا لحجهم وسعوا لعمرتهم مع حديث أنهم لم يسعوا إلا سعي العمرة الأول ، ولم يسعوا للحج .
والظاهر أن المثبت والنافي إذا كانت رواية كل منهما في شيء معين في وقت معين واحد أنهما يتعارضان . فلو قال أحدهما : دخلت الكعبة مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت كذا ولم أفارقه ولم يغب عن عيني حتى خرج منها ولم يصل فيها ، وقال الآخر رأيته في ذلك الوقت بعينه صلى فيها فانهما يتعارضان فيطلب الترجيح من جهة أخرى والله أعلم . وهذا أصوب من قول من قدم المثبت مطلقاً ومن قدم النافي مطلقاً . ووجه تقديم رواية المثبت أن معه زيادة علم خفيت على صاحبه ، وقد عرفت أن ذلك لا يلزم في جميع الصور مما ذكرناه آنفاً .
المصنفات في مختلف الحديث :
قد صنف فيه الإمام الشافعي كتاباً مستقلاً وهو أوَّل من تكلَّم فيه، وعقد في كتابه " الأم " فصلاً طويلاً ، ولم يقصد رحمة الله استيفاءه، بل ذكر جملة ينبه بها على طريقة هذا العلم .
كما صنف فيه ابن جرير, والطَّحَاوي في كتابه «مُشْكل الآثار»، وابن قتيبة إلا أن العلماء قالوا في كتاب ابن قتيبة أتى بأشياء حسنة وأشياء غير حسنة لكون بعض الترجيحات غيرها أقوى وأولى منها، وقد ترك أيضا معظم المختلف.
ينظر للمبحث:
تَدْريبُ الرَّاوِي في شَرْح تَقْريب النَّواوي النوع السادس والثلاثون ،ومقدمة ابن الصلاح ، والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث ،ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ،وشرح الورقات للشيخ صالح الفوزان.
__________________