تدخل قضية التمويل الأجنبى دائرة الصمت والنسيان، بعد أن ظلت عدة أسابيع المسيطرة على الساحة السياسية والإعلامية، والكثير من قضايا تثار بقوة ثم تأخذ طابع الهوجة ولا تلبث أن تترك وتنسى لننتقل لغيرها، لذا فإن كل الملفات تبقى مفتوحة وغير مكتملة، وهكذا الحال منذ شهور عديدة.. تذكر حادث السفارة الإسرائيلية والاعتداء على مديرية أمن الجيزة.. حادث ماسبيرو.. محمد محمود أول مرة وتانى مرة.. حريق المجمع العلمى، وهكذا.
قضية التمويل الأجنبى أثيرت وأخذت معها الرأى العام ثم هدأت تماما، والواضح أن مصر الرسمية وكذلك الولايات المتحدة توصلتا معًا إلى حل فى القضايا المعلقة بهذا الملف، ولذا فإنها تتعلق بالضمير الوطنى وسيادة مصر، وهذا ليس شأن الرسميين فقط، إنه شأن يعنينا ويخصنا جميعا.. ومن ثم فإن الحكومة مطالبة بإصدار ما يمكن تسميته كتابا أبيض أو أزرق - أى لون - يشرح فيه الحقائق كلها، بدءا بالسؤال التالى: هل غضبت مصر لأن المنظمات
الأمريكية عملت بدون ترخيص رسمى أم لطبيعة النشاط والدور الذى تقوم به هذه المنظمات؟ صحيح أن العمل بدون تصريح رسمى مخالفة للقوانين المصرية ولا يجب السماح به، لكن التوضيح هنا واجب.. لأن كثيرين يتحدثون فى المجالس الخاصة عن أن هذه المنظمات كانت هى «الطرف الثالث» أو «اللهو الخفى» فى الكثير من الأزمات والقضايا الكارثية التى تعرض لها المجتمع فى الفترة الأخيرة. هذه كلها استنتاجات وتوقعات لفريق من المراقبين، قد تصح وقد تخطئ.. لكن يبقى التوضيح الرسمى مطلوبا، لأن البعض طلب تعديل الاتهام الموجه إلى العاملين بهذه المنظمات ليصبح الاتهام بالخيانة والعمالة. هذه أمور لا يجب أن تترك لاستنتاج فردى أو انطباع خاص، بل لابد من معلومات مؤكدة.
الكثير من منظمات المجتمع المدنى، خاصة فى مجال حقوق الإنسان، تعمل بتمويل أمريكى أو أوروبى، وهذا أمر سلبى وخطر على المدى البعيد، قد تكون هذه المنظمات مضطرة إلى ذلك الآن، لأن الممولين المصريين لن يقدموا على تمويل مثل هذه المنظمات ولا مثل هذه الأنشطة، هم فى أفضل الأحوال يدعمون بعض المشروعات العلاجية، مستشفيات وغيره، أو يدفعون بعض الأموال أو الهدايا العينية فى مناسبات بعينها كشهر رمضان الكريم وعيد الفطر أو عيد الأضحى وهكذا، لكنهم لا يغامرون بدعم منظمة أو مجموعة قد تصطدم بالسلطة والجهات المسؤولة.. فضلا عن أن قضايا حقوق الإنسان لم تصبح بعدا أساسيا فى وعينا وثقافتنا العامة، لكن استمرار هذه المنظمات والمجموعات فى الاعتماد على التمويل الأجنبى قد يلون اهتماماتها والقضايا التى تركز عليها، فضلا عن أنه يدمغها أمام الرأى العام بطابع شديد السلبية، لأن الولايات المتحدة الأمريكية فى نظر المواطن المصرى، بعد ما جرى فى العراق وفى أفغانستان، ومن قبلهما فلسطين، ليست هى قبلة حقوق الإنسان والحفاظ على الديمقراطية.
تأمل قيام جنود أمريكيين بإحراق المصحف فى أفغانستان، وقبلها قيام بعضهم بالتبول على جثث مواطنين أفغان قتلوا فى إحدى الغارات، وأخيراً قيام جندى بمجزرة راح ضحيتها 16 أفغانيا، ثم تهريبه خارج أفغانستان.
قضية التمويل الأجنبى لها مخاطرها الحقيقية، ولابد الآن من التعامل الرسمى معها، ولابد لمنظمات المجتمع المدنى، خاصة التى تعمل فى مجال حقوق الإنسان، أن تبحث عن بديل للتمويل الأجنبى، والأفضل أن يكون بديلا محلياً ووطنيا لتصبح قضايا حقوق الإنسان جزءا أصيلا من اهتمامنا ونابعا من داخلنا وقبل كل هذا وبعده، لابد للحكومة أن تصدر تقريراً وافيًا بالمعلومات حول هذه القضية؟