كل عاقل أمسك بالقلم، وخط الحرف جنب الحرف، سأل نفسه: لمن أكتب؟ هل نكتب كي نعاود قراءة ما كتبنا، ونعجب من أنفسنا، ونريح أعصابنا؟ أم نكتب ليقرأ غيرنا، ويتعرف على رأينا، وموقفنا؟ ومن هو غيرنا هذا؟ أهو القائد السياسي صاحب القرار، أم المختلف معنا في الآراء السياسية؟ من هو هذا الآخر الذي نسعى لنصل إليه، ونوصل إليه أفكرنا؟
ما أكثر مجالات الكتابة! ولكل كتابة عين تلتقطها، وعقل يحللها، ووجدان يخزن مضمونها، فالكتابة الأدبية مثلاً لها من يعشقها، ويتشوق لحروفها، ولها مستقبلوها، والكتابة السياسية لها أيضاً من يتابعها. فهل الكتابة السياسية موجهة للعدو أم للصديق؟ وهل هي كتابة تفسيرية للأحداث، أم كتابة تحليلية؟ كتابة ترسم أفقاً للمستقبل، أم تغرق في مراجعة الماضي؟ كتابة تؤثر على القرار السياسي في مجتمع عربي لا دخل فيه للرأي العام، أم تؤثر في الرأي العام ذاته، وتشكل حصانة واعية من العقول القادرة على التآلف حول فكرة؟
أزعم أنني لا أكتب لقادة السلطة الفلسطينية في رام الله، ولا يعنيني كثيراً إن قرؤوا ما كتبت، أم لم يقرؤوا، ولا يعنيني كثيراً قادة حماس في غزة، انتبهوا لما أكتب أم لم ينتبهوا، رغم ثقتي أن مقالي تقرأه السلطة في رام الله، كما تقرأه حركة حماس في غزة، ومع ذلك فأنا لا أكتب للمسئولين، ولا أكتب إلى أولئك الذين تحجروا على قوالب فكرية مستوردة، وباتوا عبيد الاغتراب، وإنما أكتب للإنسان العربي العادي، الذي صار يفتش في المواقع، ويتابع ما يسجل من آراء تحليلية للأحداث. لهذا الإنسان أكتب، وأتعمد إيصال موقفي السياسي، وتجربتي، ولا انتظر شكر أحد، ولن يعيقني ذم أحد، لأن هدفي هو الإسهام في تأسيس الوعي العام، وتشجيع جيل وطني منتمٍ، لا يخشى الأعداء. وأثق أن من سلالة هذا الإنسان سينبت القرار العربي بعد سنوات، وسيكون الوطن الممتد على مساحة الكرامة.
قبل أكثر من عشرين عاماً، قال لي مسئول أحد التنظيمات الفلسطينية في سجن نفحة الصحراوي: لماذا تريد ترك تنظيمنا؟ ما هو عيبنا؟ بماذا نحن مقصرون معك؟ نقدم إليك امتيازات واستثناءات لا يحظى فيه سجين آخر؟ فما الذي يزعجك شخصياً من تنظيمنا؟ أبق ضمن تنظيمنا، وتمنَّ علينا، وتذكر أن حقوقاً مالية ستضيع عليك لو تركتنا، وأن هنالك حقوقاً مالية تصل إلى أسرتك شهرياً من تنظيمنا، ستتوقف لو تركتنا، فكر في الأمر؛ قالها المسئول التنظيمي وهو في غاية الصدق، والاقتناع بأهمية بقائي ولو اسماً ضمن صفوف التنظيم. وأضاف: ابق، وعندما نخرج من السجن، أعدك أننا سنترك التنظيم سوياً.
قلت لصديقي الذي يعمل حالياً في وظيفة مهمة مع مؤسسة دولية: عندما عملت عسكريا مع التنظيم، كنت أعرف أن أهون النتائج هي الوقوع في الأسر، وكنت أعرف أنني سأخسر وظيفتي، وبيتي، وأولادي، ومع ذلك حفزني الواجب على المقاومة، وبهذا عرفني كثير من طلابي، وأهلي، وأصدقائي الذين يعتبرونني قدوة، وسيقعون في حب التنظيم الذي عملت معه، وأحسب أن واجبي إيقاظهم مبكراً، وأن أوصل لهم رسالتي من داخل السجن، لئلا يحترق غيري بالنار التي أحرقت ارتباطنا الوجداني بالمقدسات، ولئلا يقع مخلص في شرك الشعارات، لذا سأضحي من أجل من أحببتُ بكل ما ذكرت من مكاسب مادية!.
لمن يحبون وطنهم أكتب، ولهم أضيء شمع كلماتي، وبهم تأتلق أفكاري.