من معاني الله أكبر:
أن الله أكبر مما تعرف:
بعضهم قال من معاني الله أكبر في قوله تعالى:
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾
أن الله أكبر مما تعرف. مهما عرفت عن الله فهو أكبر، مهما ارتقيت في سُلَّم الإيمان فهو أكبر، مهما اتسعت رؤيتك للحقيقة فالله أكبر، مهما شعرت أن الله عظيم فهو أعظم، لذلك من أدق التفسيرات لقوله تعالى:
﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾
(سورة محمد: آية " 19 " )
أيُّ ذنبٍ اقترفه النبي عليه الصلاة والسلام ؟ العلماء وجَّهوا هذه الآية بمعنى أن كل رؤيةٍ رآها النبي رأى فيها عظمة الله عزّ وجل، الرؤية التي تليها هي أوسع وأشمل فكأنه يستحي من رؤيته السابقة وكأنها في حقِّه ذنب.
إنسان تعرف عنه الشيء الكثير ثم فوجئت أنه أكبر مما تعرف فإنك تستحي بمعرفتك المتواضعة، وفي النهاية لا يعرف الله إلا الله، النبي عليه الصلاة والسلام مع أنَّه سيِّد الخلق وحبيب الحق لم يعرف الله حق المعرفة، فهو أعلى إنسان في معرفة الله لكن لأن الله لا يعرفه إلا الله، إذاً الله أكبر، أكبر مما أعرف، مهما عرفت عن رحمته فهو أكبر، مهما عرفت عن عدله فهو أكبر، مهما عرفت عن لطفه فهو ألطف.
من معاني الثياب في قوله " و ثيابك فطهر ":
1 ـ العمل:
أيها الإخوة:
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
هذه الآية مهمة جداً، أول معنى من معاني الثياب: هو العمل، الإنسان له ثوبٌ من عمله، الآن في جلسة يذكر إنساناً (جزاه الله خيراً ) يذكر إنساناً ثانياً أول كلمة: الله لا يوفقه، معنى هذا أن عمله ثوب له، فأول معنى من معاني:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي أن هذا العمل الذي هو لك كالثوب أنت متلبسٌ به، يوجد مستقيم ويوجد منحرف، يوجد رحيم ويوجد قاسي، يوجد منصف ويوجد ظالم، يوجد صادق ويوجد كاذب.
أول معنى: وعملك فأصلح، عملك ثوبٌ لك، يقول لك: هذا أمين الأمانة ثوب، هذا مستقيم فإن الاستقامة ثوب، هذا مُتْقِن الإتقان ثوب، هذا مخلص الإخلاص ثوب، هذا صادق الصدق ثوب، هذا كاذب فإن الكذب ثوب، هذا خائن الخيانة ثوب، هذا غير عفيف فإن عدم العفة ثوب، فثوبك أي عملك، كلما ذُكِرت ذُكِرَ معك عملك وكأنه ثوبٌ لك يحيط بك.
استعمالات كلمة الثوب في اللغة العربية:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي أصلح عملك، يوجد تقصير، يوجد انحراف، يوجد كذب، يوجد اغتصاب لأموال الآخرين، يوجد احتيال، يوجد تدجيل، يوجد ابتزاز، عملك ثوبك الذي تَلْبَسُهُ دائماً ولا تستطيع أن تخلعه أبداً.
لو أن إنساناً فُضِح، هذه الفضيحة سَرَت بين الناس، أصبحت له كالثوب متى ذُكِر تذكر فضيحته، متى تحرَّك يُشار إليه بأنه فعل كذا وكذا، والآن الفضائح توجد معها أفلام، يوجد تصوير، لا يستطيع أن يهرب من هذا الثوب الذي لبسه، هذا المعنى الأول (وعملك فأصلح).
لذلك العرب تقول: فلان خبيث الثياب إذا كان عمله سيئ، وفلان طاهر الثياب إذا كان عمله صالحاً وهذا من استعمالات كلمة الثوب في اللغة العربية، لأن القرآن الكريم نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين.
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)﴾
(سورة الزخرف )
أساليب العرب قبل الإسلام الثوب هو العمل، فلان طاهر الثوب أي عفيف، فلان خبيث الثوب أي عمله سيئ، والحقيقة الإنسان القوي أحياناً أو الغني يّمدح في وجهه فقط، العبرة لا ما يّقال أمامك بل ما يّقال في غيبتك، أنت تساوي لا ما يّقال في حضرتك بل ما يُقال في غيبتك، فإذا غبت عن الناس ماذا يّقال عنك ؟ جزاه الله خيراً، والله صادق، والله كريم، والله محسن، مستقيم، ورع، والإنسان المنحرف إذا تكلَّم الناس عنه في غيبته نهشوا عرضه وأطلقوا لألسنتهم العنان.
2 ـ القلب:
المعنى الثاني:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي قلبك فطهِّر لأن العمل أساسه القلب، الذي قلبه طاهر عمله طاهر، الذي قلبه فبه حقد وفيه حسد وفيه شهوة دنيَّة عمله سيئ، فهذا تحصيل حاصل، يعني ثوبك أي قلبك الذي منه يصدر عملك، العمل سلوك وقبل السلوك إرادة وقبل الإرادة تصوُّر وقبل التصور عزم القلب، يوجد في القلب تساهل فيصبح الإنسان غير مستقيم، يوجد في القلب كبر فسلوكه فيه كبر، يوجد في القلب حقد فإن سلوكه فيه حقد، يوجد في القلب ظلم إذاً هو يظلم، فالمعنى الثاني:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي قلبك فطهر.
((عبدي طَهَّرت منظر الخلق سنين أفلا طهَّرت منظري ساعة ؟))
(ورد في الأثر )
طهرت منظر الخلق أي الإنسان يطلي البناء، يرتدي ثياباً جميلة، ينظف مركبته لأنها منظر الخلق، أفلا ينبغي أن يطهر قلبه لأنه منظر الرب ؟
((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ))
(متفق عليه عن أبي هريرة )
3 ـ النفس:
المعنى الثالث: النفس، ذات الإنسان، يوجد نفس طاهرة، يوجد نفس خبيثة.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)﴾
(سورة المائدة )
من هي ذات الصدور ؟ نفسك التي بين جنبيك، هذا المعنى الثالث من:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي طهر عملك، وطهر قلبك، وطهِّر نفسك، والنفس ذات الإنسان، قالوا: طَهِّرها من الإثم والعدوان، طَهِّرها من المعاصي والآثام، طهرها من الغدر بالخُلاَّن، أي طَهِّر نفسك من كل شيْ لا يرضي الله عزّ وجل.
4 ـ الجسم:
المعنى الرابع:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي وجسمك فطهِّر عن المعاصي الظاهرة، العين تزني وزناها النظر، توجد عين طاهرة أي تغض عن محارم الله، توجد أذن طاهرة لا تستمع إلى الغناء، يوجد لسان طاهر يذكر الله دائماً، توجد يد طاهرة إنها تعطي، توجد رجل طاهرة إنها تحملك إلى المسجد ؛ أما الرجل التي تقود صاحبها إلى ملهى هذه رجلٌ نجسة، واليد التي يبطش بها الإنسان ظلماً يدٌ نجسة، والعين التي يتَّبع بها عورات المسلمين عينٌ نجسة، والأذن التي يستمع بها إلى الغيبة والنميمة وقول الزور والبهتان وفضائح الناس ويستمع بها إلى الغناء أذنٌ نجسة، واللسان الذي يذكر عورات الناس لسانٌ نجس، إذاً:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي طَهِّر جسمك من المعاصي الظاهرة.
5 ـ الأهل:
المعنى الخامس لقوله تعالى:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي أهلك فطَهِّرهم لأن أهل الإنسان كالثياب له استنادا لقوله تعالى:
﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾
(سورة البقرة: آية " 187 " )
والله سبحانه وتعالى يؤكِّد هذا المعنى في آيةٍ أخرى، يقول الله عزّ وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾
(سورة التحريم: آية " 6 ")
أي زوجتك ألصق الناس بك، أولادك، بناتك، إخوتك، أخواتك هؤلاء أهلك، هؤلاء عورتك، طَهِّرهم، أي اهتم بهم، دقق في صلاتهم، في طاعتهم، في حجابهم، في دينهم، في علمهم..
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
هم ثيابك، هذا المعنى المتعلِّق بالأهل وهو المعنى الخامس.
6 ـ الخُلُق:
والمعنى السادس: الثياب هي الخُلُق، يعني يبدو منك أخلاقك، أخلاقك هي كالثياب، أنت إن نظرت إلى إنسان ماذا ترى ؟ ترى ثيابه، وأخلاقه ثيابه.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي طهِّر أخلاقك من الدَنَس، من الكذب، من الغيبة، من النميمة، من الحقد، من الكِبر، هذا أيضاً من معاني:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي أن خلق الإنسان مُشْتَمِلٌ على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه.
7 ـ الدين:
ويوجد معنى سابع:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي دينك فطهر:
((ابن عمر، دينك دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا ))
(أخرجه ابن عدي في الكامل عن ابن عمر )
دين عقيدتك، هل بحثت عن عقيدةٍ صحيحة أم أن في ذهنك تعشعش الأوهام والأباطيل والخرافات، والأحاديث الضعيفة والموضوعة، والقصص التالفة، والخرافات، والكرامات التي لا تُصدَّق، ثيابك دينك، هل استقامت عقيدتك ؟ هل قُمْتَ بواجباتك الدينية ؟ هل عبدت الله حق العبادة ؟ هل اتقيت الله حق التقوى ؟ أن تذكره فلا تنساه، أن تشكره فلا تكفره، أن تطيعه فلا تعصيه، هذا المعنى السابع.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي دينك فطهِّر، هذا يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم:
((رأيت الناس وعليهم ثياب منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ورأيت عمر ابن الخطاب وعليه إزارٌ يجرّه (أي ثيابه سابغة) فقلت يا رسول الله: فما أوَّلت ذلك، قال: الدين ))
(متفق عليه عن أبي سعيد الخدري )
الثوب هو الدين، يوجد إنسان ثوبه إلى خصره، يوجد إنسان ثوبه إلى أثدائه، يوجد إنسان ثوبه إلى رقبته، رأى عمراً يرتدي ثوباً سابغاً يجرُّه، قال: ما أولت ذلك ؟ قال: الدين، إذاً استنباطاً من هذا الحديث الشريف:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
أي دينك فأصلح، اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.
8 ـ الثياب:
بقي المعنى الثامن:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
المعنى المتبادر للثياب، أي إن هذه الثياب التي ترتديها يجب أن تكون طاهرة، لذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم:
((لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاء ))
(صحيح البخاري: عن ابن عمر )
((مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))
( صحيح البخاري:عن عبد الله عن أبيه )
سيدنا الصديق قال: ((يا رسول الله إن أحد شِقَّي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال عليه الصلاة والسلام: لست ممن يصنعه خيلاء ))
(متفق عليه عن سالم بن عبد الله )
أنت فوق ذلك يا أبا بكر.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
لا تجعلها مع الطريق، أو اغسلها من النجاسة وهو ظاهرٌ، لا تصلي في ثوبٍ غير طاهر، هذا معنى الثياب الطاهرة، أي يجب أن ترتدي ثياباً نظيفة، فإما أن تجعلها طاهرة بأن لا تكون سابغةً إلى درجة أنَّك تنظِّف بها الطريق، فالثوب المعتدل أنقى وأقرب إلى الله وأتقى.
علامة حبك لله إتباعك لرسوله:
شيءٌ أخير في هذه الآية:
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
الثوب الأهل، والثوب القلب، والثوب النفس، والثوب العمل، والثوب الثياب التي أمرنا أن نطهِّرها دائماً، والقرآن كما قال الإمام عليٌّ بن أبا طالب رضي الله عنه: " حمَّال أوجه ".
﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)﴾
(سورة الكهف )
وهذه الآية الأولى:
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾
اسأل نفسك هذا السؤال: هل ساهمت في حياتك بهداية إنسانٍ واحد ؟ هل فكَّرت أن تنقل حقيقةً للآخرين ؟ هل أردت أن تصطحب أحداً إلى بيت الله ؟ هل دخل إلى قلبك رغبةٌ حميمةٌ أن تنقذ إنساناً من الكفر، من الضياع، من المعصية ؟ هذا ما نستفيد منه من هذه الآية:
﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾
طبعاً في حدود ما تعلم وفي حدود من تعلم، وهذه الدعوة إلى الله على هذين المستويين فرض عينٍ على كل مسلم، ومن قصَّر بهذا فهو ليس متبعاً لرسول الله، ومن علامة حبك لله إتباعك لرسول الله، وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتابع هذه الآيات:
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾
(سورة المدثر )
والحمد لله رب العالمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون: مع الدرس الثاني من سورة المدَّثِر، ومع الآية الخامسة والتي بعدها وهي قوله تعالى:
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
(سورة المدثر )
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾
(سورة المدثر )
المعنى الدقيق و الواسع للرجز:
أيها الإخوة الكرام: الرُجْز معناه الدقيق الأصنام، المعنى الواسع كلُّ ما سوى الله، لا تلتفت إلى غير الله، ولا تعتمد على غير الله، ولا تتجه إلى غير الله، ولا تعقد آمالك على غير الله، ولا تتكئ على صديقٍ ولا صاحب، ولا على ولدٍ ولا زوجة، ليكُن اعتمادك على الله وحده.
الشرك الخفي:
أيها الإخوة: قال تعالى:
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)﴾
(سورة يوسف)
العلماء فصَّلوا بين الشرك الجلّي وبين الشرك الخفي. ليس في العالم الإسلامي كله والحمد لله شركٌ جلي، ليس عندنا إلهٌ كبوذا يُعبد من دون الله، ولكن الشرك الخفي هو كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس الشرك الخفي))
[ سنن أحمد عن شداد بن أوس ]
أنت مسلم مؤمن بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الكتب حق، وأن الأنبياء والرسل حق، ولكن لضعف التوحيد تتجه إلى غير الله، لضعف التوحيد تُلْقي آمالك على غير الله، لضعف التوحيد تعتمد على مالك، من اعتمد على ماله ذل، لضعف التوحيد تثق بقدراتك، ومن توكَّل على ذاته أوكله الله إيَّاها، نريد من هنا أن نبين معنى الشرك الخفي، فأصحاب النبي عليهم رضوان الله، والنبي بين أظهرهم، وهم صفوة الصفوة. (( إن الله اختارني واختار لي أصحابي ))
ومع ذلك حينما قالوا يوم حنين: لن نغلب من قلة، اعتمدوا على كثرتهم وهم لا يشعرون.
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)﴾
(سورة التوبة )
على الإنسان أن يعتمد على الله وحده:
راقب نفسك، دقق فيما تقول، هناك إنسان أنا أعرفه مؤمناً، لكن زلَّ لسانه فقال: بالمال يُحَلُّ كل شيء، وقع في ورطةٍ، فجلس تسعةً وستين يوماً في غرفةٍ لا تزيد عن متر بنصف متر وهو لا يستطيع أن ينطق ولا أن يتنفَّس، فكان تأتيه الخواطر كل دقيقة: أَتُحَلُ هذه بالمال ؟ لا تعتمد على مالك، ولا على سلطانك، ولا على ذكائك، ولا على خبراتك المتراكمة، ولا على علمك، ولا تُلقي الآمال على ولد قد يسافر ويتجَنَّس ويستغني عن أهله كلهم، لا تعتمد على زوجة قد تقلب لك ظهر المِجَن وأنت في أشد الحاجة إليها، اعتمد على الله وحده، هذا المعنى الواسع:
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
لا تلتفت إلى الأصنام، أي:
(( إن الشيطان يئس أن يُعبد في أرضكم ))
بعد ظهور هذا الدين العظيم ليس في العالم الإسلامي كله مجالٌ لصنمٍ يُعبد من دون الله:
((.... ولكنها شهوةٌ خفية وأعمالٌ لغير الله ))
[ سنن أحمد عن شداد بن أوس ]
فلذلك:
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
قالوا: الأوثان، الدليل:
﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾
(سورة الحج: آية " 30 " )
الاجتناب و التحريم:
الاجتناب له معنى دقيق، كيف أن الله سبحانه وتعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)﴾
(سورة المائدة )
الاجتناب أشد من التحريم، أشد بكثير، لو أن الله حرَّم الخمر لجاز لك أن تبيعها أو أن تشتريها، أو أن تنقلها، حرم الخمرة فقط، ولم يأمر باجتنابها، لجاز لك أن تبيعها وأن تشتريها، وأن تحملها، وأن تُحْمَل إليك تربح بها، وأن تعلن عنها، وأن تستثمر ثمنها، ولكن حينما قال الله عزَّ وجل:
﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾
لعن الله الخمرة وبائعها وشاريها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، الاجتناب لا بدَّ من أن تبقي مسافةً بينك وبين هذا المُحَرَّم، مسافة أمان، كذلك هنا:
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
أي أن كل شيء ما سوى الله رجزٌ.
معاني الرجز:
1ـ الأصنام:
أول معنى الرجز: هم الأصنام، الآية الكريمة:
﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾
( سورة الحج: آية " 30 " )
2 ـ الإثم:
عن ابن عباس رضي الله عنه: " أن الرُجز هو الإثم " أي إثمٍ ينبغي أن تجتنبه، والإثم هي المعصية، الإثم والعدوان، الإثم معصيةٌ فيما بينك وبين الله، والعدوان معصيةٌ فيما بينك وبين العباد، الإنسان إذا ترك الصلاة يأْثم، وإذا أطلق بصره في الحرام يأثم، أما إذا أكل مال الآخرين ظُلماً فقد اعتدى عليهم، فالإثم متعلقٌ فيما بينك وبين الله، والعدوان متعلقٌ فيما بينك وبين الناس.
نحن على أبواب رمضان، وعلى أبواب الحَج بعد رمضان، وقد يتوهَّم المسلمون أنَّك إذا صُمت رمضان غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر إطلاقاً نقول: لا، غُفرت لك الذنوب التي بينك وبين الله، أما التي بينك وبين العِباد هذه لا تُغفر إلا بحالتين، إلا بالأداء أو المسامحة، وإذا ذهبت إلى بيت الله الحرام (إن شاء الله تعالى) وحججت حجاً مبروراً غُفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر إلا الذنوب التي بينك وبين العباد، لأن حقوق الله مبنيةٌ على المسامحة بينما حقوق العباد مبنيةٌ على المُشاححة.
فإيَّاك أن تتوهم أنه بعد رمضان سقطت عنك كل الحقوق والواجبات التي عليك أن تؤديها إلى الناس، وأنه بعد الحج سقطت عنك كل الحقوق والواجبات التي عليك أن تؤديها للناس، هذا لا يسقط إلا بالأداء والمسامحة، فالمعنى الثاني اهجر كل معصيةٍ تُبعدك عن الله عزَّ وجل.
هجر كل ما يبعدنا عن الله تعالى:
أنت أمام شيء، الهدف الأول الحقيقة الوحيدة في الكون هي الله، أي شيءٍ يقربك إليك افعله، وأي شيءٍ يبعدك عنه فاهجره، هذا ملخص الملخص، إن تكلَّمت بالحق تتقرب، وإن نصحت مسلماً تتقرب، إن قرأت القرآن تتقرب، إن أعنت ضعيفاً، إن أطعمت جائعاً، إن رَعَيْتَ يتيماً، إن اعتنيت بأرملةٍ، إن أنفقت مالك في سبيل الله، إن صليت، إن صُمت، إن تعلَّمت العلم، إن علَّمت العلم، إن قرأت القرآن، إن قَرَّأت القرآن، أي شيءٍ يقربك إلى الله فافعله، وأي شيءٍ يُبعدك عن الله ولو ومضة، لو أنك أتبعت النظرة النظرة وقعت في الإثم، لو أنك ابتسمت ابتسامةً ليس في مكانها ابتعدت عن الله، لو أنها كما قالت: قصيرة، قال: ((يا عائشة لقد قلت كلمةً لو مُزجت بمياه البحر لأفسدته ))
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
اهجر كل إثمٍ ومعصيةٍ تبعدانك عن الله.
لكن العلماء قالوا: إذا قلت للطالب المجتهد اجتهد، معنى ذلك أن ثابر على اجتهادك، وإن قلت للكسول: اجتهد أي ابدأ اجتهادك، العاصي إن أمرته بالطاعة فمن أجل أن يطيع الله، أما إذا أمرت طائعاً بالطاعة من أجل أن يستمر على طاعته.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾
(سورة الأحزاب: آية " 1 " )
النبي يتقي الله، إذاً معنى اتقِ الله بحق النبي أن يستمر على تقوى الله عزَّ وجل.
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
3 ـ العذاب:
معنى آخر قال تعالى:
﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)﴾
(سورة الأعراف )
هنا العذاب، معنى العذاب.
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
أي ابتعد عن كل عملٍ يؤدِّي بك إلى العذاب، أي عملٍ ينتهي بك إلى العذاب ابتعد عنه.
قانون العزة:
بحياتنا الواقعية إذا فرط الإنسان في تناول ما لا ينبغي ( كشرب الدخان مثلاً ) هذا قد يؤدي به إلى أورام خبيثة، إلى أمراض في الأوعية، إلى أمراض في الدم، أمراض في دسَّامات القلب، أمراض في الكُليتين، أمراض في الجلد وفي الأطراف البعيدة، فهذا يؤدي بك إلى مرضٍ معَذِّب، ابتعد عنه، بشكل واسع أي عملٍ ينقلك إلى عذاب، يضعك تحت وطأة عذاب، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (( إياك وما يعتذر منه ))
أي العمل الذي تستحي منه، تصغر أمام الناس به، يحمرُّ وجهك خجلاً منه، إيَّاك أن تفعله تكن عزيزاً، والعزَّة لها قانون:
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26)﴾
(سورة يونس )
المُحسن المستقيم لا أحد يستطيع أن يذلَّه أبداً ولو كان فقيراً، ولو كان ضعيفاً، ولو كان في الدرجة الدُنيا من المجتمع، استقامته، ونظافته، وصدقه، وأمانته، وعفافه يجعلانه كالملك،
قال الملك لوزيره: من الملك ؟ قال: أنت. قال له: لا، الملك رجلٌ لا نعرفه ولا يعرفنا، له بيتٌ يؤويه وزوجةٌ ترضيه، ورزقٌ يكفيه (إنسان نظيف).
فأي واحد منا إذا كان مستقيماً، صادقاً، أميناً، عفيفاً، مطبقاً لمنهج الله، يؤدِّي صلواته الخمس، يصوم رمضان، يغضُّ بصره عن محارم الله، لا يوجد في بيته معصية، ولا يوجد في عمله معصية، صادق، أمين، هذا هو الملك، هذا ملك في الدنيا والآخرة لأنه هجر الرُجز، و ترك كل أنواع الإثم.
الأخذ بالأسباب و الاعتماد على الله:
لا بدَّ في الإثم من عدوان على الآخرين، لو نظرت إلى امرأةٍ لا تحل لك هذا إثم وعدوان بآن واحد. فالمعنى الأول: اجتنب عبادة الأوثان بالمعنى الضَيِّق، بالمعنى الواسع: اجتنب الشرك الخفي، أن تلقي الآمال على غير الله، أن ترى أن هذا الإنسان يعطيك أو يمنعك، يرفعك أو يخفضك، يُمِدُّك أو يمنعك، لا تفعل هذا نوعٌ من الشرك، اعتمد على الله وحده، لكن لك أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد على الله وحده، وهذا الشيء دقيق إن لم تأخذ بالأسباب فقد عصيت الله، لأن الله عزَّ وجل جعل لكل شيءٍ سبباً، وإن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فقد جعلتها إلهاً، أشركت مع الله، فالبطولة أن تأخذ بالأسباب، وأن تعتمد على الله وحده، وهذا لا يستطيعه إلا المؤمنون الصادقون، من أنتم ؟ قالوا: نحن المتوكِّلون، أناسٌ فقراء سألهم عملاق الإسلام (سيدنا عمر): من أنتم ؟ قالوا: نحن المتوكِّلون، قال: كذبتم، المتوكِّل من ألقى حبةً في الأرض، ثم توكل على الله.
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض أحاديثه الصحيحة: (( قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ. فَقَالَ: مَا قُلْتَ ؟ قَالَ: قُلْتُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))
(مسند أحمد عن العوف بن مالك )
الابتعاد عن كل ما يؤدي بك إلى العذاب النفسي:
أنت مكلَّف أن تسعى، أما حينما تقهر هذا قضاء الله وقدره، هذا المعنى الثالث. المعنى الأول: ابتعد عن عبادة الأصنام، الأوسع: ابتعد عن الشرك الخفي، المعنى الثاني: ابتعد عن كل عملٍ يؤدِّي بك إلى العذاب، في عذاب نفسي أحياناً، فإذا كان شريك خان شريكه، يحتقر نفسه ولو أن أحداً لم يعلم.
لو أن امرأةً ابتسمت لغير زوجها، ابتسمت في محلٍ تجاري لرجلٍ أجنبيٍ عنها، ابتسمت وألانت له القول، تشعر أنها خانت زوجها بشكلٍ أو بآخر، هذه الابتسامة وهذا اللين لزوجها فقط لا لرجل أجنبي لأن الله تعالى يقول:
﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)﴾
( سورة الأحزاب )
فالإنسان حينما يخطئ يشعر بصغار، يفقد احترامه لذاته، إذاً أي عملٍ يؤدِّي بك إلى عذاب نفسي، إلى حرج مع الآخرين، إلى حرج أمام الله عزَّ وجل ينبغي أن تبتعد عنه.
الانضباط في مجتمعنا من نعم الله على الإنسان:
فمن الطُرَفِ التي قرأتها مرةً: أن استبياناً (أي إحصائية) وزِّعَ على مئة زوج، هذا الاستبيان فيه سؤال وحيد: لماذا لا تخون زوجتك ؟ طبعاً ليس عندنا في بلادنا، نحن عندنا في بلادنا الأصل ذلك، هذه من نعم الله الكبرى، معظم الأسر خمسة وتسعين بالمئة أسر منضبطة (من هذه الناحية منضبطة) أما في بلاد الغرب قد يحتفل الإنسان وهو في دمشق بعيداً عن زوجته ثلاث سنوات بأن امرأته أنجبت له مولوداً، ويدعو أصدقاءه لطعامٍ ولحفلةٍ، شيء طبيعي جداً.
هناك قصةٌ رويتها لكم سابقاً، تعبِّر عن مجتمع الغرب، شابٌ رأى فتاةً فأحبها فاستشار أباه فقال له: لا يا بني إنها أختك وأمك لا تدري، فلما رأى فتاةً أخرى أعجبته أيضاً، فاستشار أباه ثانيةً، فقال له: لا يا بني إنها أختك وأمُّك لا تدري، فلما رأى فتاةً ثالثة أيضاً أعجبته فاستشار أباه فقال له كما قال في المرة الثانية والأولى: لا يا بني إنها أختك وأمك لا تدري، فلما ضَجِر شكا إلى أمِّه هذا فقالت له: خذ أياً شئت فأنت لست ابنه وهو لا يدري. هذا مجتمع الغرب، هذا مجتمع الغرب مجتمع التفلُّت، والانحلال.
لذلك: من هوي الكفرة حُشر معهم ولا ينفعه عمله شيئاً، ومن أقام مع المشركين فقد برأت منه ذمة الله، من أقام معهم إقامةً دائمة، أعجبه سلوكهم، أعجبه تفلُّتهم، أعجبه انحلالهم، أعجبه نمط حياتهم، أعجبه بعدهم عن الله عزَّ وجل واعتمادهم على العلم وحده وعلى المادة وحدها.
اختبار الدافع الإنساني في العالم الغربي:
قرأت تعليقاً أرادوا أن يمتحنوا الدافع الإنساني الرحيم في المجتمع الغربي، فجاؤوا بسيارة محطمة، وأجلسوا إلى جانبها إنساناً وقد صبغوه باللون الأحمر كأن الدم قد سال منه، وضعوه على أكثف طريق بين باريس وليون، فهذا الطريق لا ينقطع فيه السير، بعد ست ساعاتٍ وقفت سيارة كي تسعفه. فهؤلاء ابتعدوا كثيراً عن الله عزَّ وجل أما أتقنوا الدنيا إتقاناً مذهلاً، لكي نكون واقعيين، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، أتقنوا الدنيا وكفروا بالآخرة، لذلك ينطبق عليهم قول الله عزَّ وجل:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾
(سورة الأنعام: آية " 44 " )
لم يقل: باب كل شيء، قال: أبواب، ولم يقل: أبواب شيء، أبواب كل شيء:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)﴾
أُجري برنامج في بعض البلاد الغربية عن الزنا، جاءت اتصالات هاتفية إلى البرنامج، اكتشف أن ثلاثة وثلاثين بالمائة من حالات الزنا في أمريكا زنا محارم، بين الأخ وأخته، والأب وابنته، هذا المجتمع، هناك مسيرات في بعض المدن الغربية، مئة ألف إنسان لأخذ حقوقهم، هؤلاء الشاذِّين جنسياً، مجتمعاتٌ انحلت وانتهت لكن قوتها المادية لا تزال موجودة، العلم والتكنولوجيا والقوة المادية موجودة، أما مبادئ، قيم، أخلاق، حدِّث ولا حرج.
فالذي أوصلنا إلى هذا: لا تعمل عملاً تستحي منه، تعَذَّب، هذا الاستبيان سألوا الأزواج (ألف زوج فرضاً): لماذا لا تخون زوجتك ؟ فكان الجواب، بعض الإجابات: أنني لا أستطيع لأنها تعمل معه في البقالية مثلاً. ويوجد إجابات: إني لا أحتمل الشعور بالذنب. وفي جواب جيد: إني أكره الخيانة. أنا ذكرت هذا المثل للفقرة الثانية، إني لا أحتمل الشعور بالذنب.
الإحساس بالذنب يؤدي إلى الكآبة:
فأحدنا والفضل من الله عزَّ وجل، المستقيم، الطاهر، الصادق، الأمين، العفيف، عنده راحة نفسية، عنده شعور سوي صحيح، أما حينما يقترف إثماً، حينما يعتدي على أعراض الناس، حينما يعتدي على أموالهم، حينما يحتال عليهم، حينما يستغل جهلهم، حينما يبتزُّ أموالهم، قد يكون في نظرهم عالياً ولكن يفقد أخطر شيءٍ في حياة الإنسان احترامه لذاته، ينهار من الداخل، المسيء ينهار من الداخل، لذلك الذي نسمعه الآن عن الكآبة المنتشرة في بلاد الغرب، كآبة، ما هي الكآبة ؟ الإحساس بالذنب، يقول لك: مُرَكَّب النقص، عقدة الذنب، الشعور بالكآبة، هذا كل عقاب الفطرة على انحراف صاحبها.
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
المعنى الثاني: هو لا تفعل عملاً يؤدِّي بك إلى العذاب ولو كان نفسياً، أوضح كلام للنبي:
(( إياك وما يعتذر منه))
الموقف الذي تضطر أن تعتذر منه لا تفعله أبداً.
الابتعاد عن كل ما يؤدي بك إلى الفاحشة
أيها الإخوة الكرام: الرجز عبادة الأصنام، بالمعنى الواسع: الشرك الخفي، المعنى الثالث كلُّ إثمٍ يحجبك عن الله عزَّ وجل، كل فعلٍ يؤدِّي بك إلى تحمل عذاب لا تطيقه اهجره، والهجران أن تبتعد عنه، أن تجعل بينك وبينه هامش أمان، هذا معنى قوله تعالى:
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
(سورة البقرة: آية " 187 " )
اجعل بينك وبينها هامش أمان، وأوضح مثل موضوع الزنا قال:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32)﴾
(سورة الإسراء )
إذاً هنا محرمة مقدماته، الخلوة محرمة، وإطلاق البصر محرَّم، وصحبة الأراذل محرَّم، وكل مجتمعٍ يغريك بهذه الفاحشة أنت ينبغي أن تبتعد عنه.
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ: آية فيها معاني عدة:
أما قوله تعالى:
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)﴾
(سورة المدثئر)
فهناك موضوعاتٌ كثيرة في هذه الآية:
1 ـ لا تمن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة:
أولاً: لا تمنن على ربِّك بما تتحمَّله من أثقال النبوة، وكأن المؤمنين معنيون بهذه الآية:
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(17)﴾
( سورة الحجرات)
فأي إنسان يتوهَّم أنه حينما أسلم وحينما اصطلح مع الله وحينما تاب إلى الله وحينما طبَّق منهج الله فله عند الله حق.
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(17)﴾
بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان هذا هو المعنى الأول.
2 ـ لا تعطي من أجل أن تستكثر الجزاء في الدنيا:
المعنى الثاني: لا تمنن أي لا تعطي، لا تعطي من أجل أن تستكثر الجزاء في الدنيا، فإنسان عنده إدراك عميق وعنده حاسة سادسة، يقول لك: فلان إذا دعوته يظهر منه خير كبير، إذا فلان أكرمته يلزمني، فالقضية عنده تجارية، إذا فلان قدمت له هدية آخذها أضعافاً منه بالمستقبل، إذا اليوم أنمته عندي في المستقبل عندما أسافر إلى بلده الفندق غالي جداً أنام عنده، هذه العقلية التجارية بالعمل الصالح، هذه المؤمن ينبغي أن ينزِّه نفسه عنها، لا تمنن من أجل أن تستكثر الجزاء في الدنيا، وحينما يعطي يفكِّر في الجزاء، يفكِّر في رد الفعل، يفكر في المكافأة، فكل عطاء أهل الدنيا عطاءٌ مشوبٌ بهدفٍ خسيس.
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)﴾
تستكثر الخير في الدنيا من أجل أن تنتفع، فالذي يحسب هذه الحسابات، أي يعطي عطاءً مشروطاً، أو يبحث من الذي إذا أعطيته أعطاني ؟ إذا أكرمته أكرمني ؟ إذا بجَّلته عظَّمني ؟ إذا قدَّمت له هديةً قابلها بأضعافٍ مضاعفة، فهذا صار ليس عبادة لله عزَّ وجل، هذا عمل مشوب بالمصلحة ويمكن أن نفسِّر ما يُعجب به الناس من استقامة الغرب بهذا الباب هم صادقون.
قتل امرؤ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر وقتل شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر
* * *
عندهم حقوق الإنسان، فإذا بلد من البلاد أخطأ في نظامهم الديمقراطي قال: حقوق الإنسان في هذا البلد غير مصونة، أما أن يموت خمسمئة ألف طفلٍ كل عام من جرَّاء الحصار الاقتصادي هذه ليست مشكلة، فهؤلاء إن رأيت منهم استقامةً أحياناً، إن رأيت منهم صدقاً أو إتقاناً، هذا من هذا القبيل، هم يوظِّفون استقامتهم لمصالحهم، يوظِّفون موضوعيتهم في أخبارهم لمصالحهم، يوظفون مظهرهم البرَّاق لمصالحهم، هذا سلوك أهل الدنيا، هذا شيء والعبادة شيء آخر، تمنن تعطي، تستكثر، تعطي كي تستكثر، لا تعطي إلا من يعطيك أضعافاً مضاعفة، لا تعطي إلا من يكافئك، لا تعطي إلا من يدعمك، هذا نموذج موجود كثير جداً.
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)﴾
المؤمن منزه عن أي عطية يلتمس أفضل منها:
المؤمن منزَّه عن هذا، قد يعطي فقيراً، قد يعطي ضعيفاً، قد يعطي ولا يفكِّر في رد الفعل إطلاقاً.
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)﴾
هذا المعنى الثاني، أي لا تعطي عطيةً تلتمس منها أفضل منها.
وبعضهم قال: هذا حرَّمه الله على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مثلٌ أعلى في الكمال، فهذا قضية خلافية أنت إذا أعطيت أي إذا أكرمت إنساناً وتعلم علم اليقين أنَّه سيكرمُك، يوجد رأي أنَّك لست مؤاخذاً على هذا لأنك من شيمتك أن تكرم الناس، فإذا أكرموك مقابل إكرامك لا شيء عليك، فالقضية خلافيَّة بين أن تكون محرَّمة على المؤمنين وبين أن تكون خاصّة بالنبي عليه الصلاة السلام.
3 ـ لا تضعف نفساً عن أن تطلب معالي الأمور:
﴿وَلَا تَمْنُنْ﴾
أي لا تضعُف، حبلٌ منين أي حبلٌ ضعيف، لا تمنن عن أن تستكثر من الخير، هذا نموذج آخر (نموذج كسول)، يا أخي اتصل بالله، اعمل أعمالاً صالحة، فكِّر، تعلَّم فأين نحن من هذه المراتب ؟ ضعيف أي يرضى بالقليل، يرضى بالمرتبة الدُنيا، يرضى أن يكون في مؤخِّرة الركب، يرضى أن يكون في الدرجة الدنيا في المجتمع، يقول لك: أريد أن أكون وراء الباب في الجنة، هذه لا تصح لك، وراء الباب لا يوجد.
الآن على مستوى الدراسة إذا الطالب لم ينوِ أن يكون متفوقاً فإنه لا ينجح، إذا بالأساس نوى أن ينجح على الحدود فإنه لا ينجح إطلاقاً، إذا في بداية الدراسة قال: أنا أريد علامة النجاح فقط، أريد مقبول في كل المواد، هذا لا ينجح، يضع أمامه التفوق لينجح، أما إذا وضع النجاح فقط فإنه لا ينجح.
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)﴾
أي لا تضعف نفساً عن أن تطلب معالي الأمور، عن أن تطلب درجات الجنة العالية، لا تضعف نفساً عن أن تصل إلى أعلى درجة علوُّ الهمَّة من الإيمان. والله عزّ وجل واحدٌ في عطائه، قال: ملك الملوك إذا وهب.. يوجد تعديل عدَّلته للبيت:
ملك الملوك إذا وهب قم فاسألن عن السبب
الله يعطي من يشاء فقف على حد الأدب
* * *
الطموح في كثرة الخير:
كلُّنا عباده، كن طموحاً واطلب من الله أعلى المراتب، إله الصحابة إلهنا وربهم ربنا، الظروف واحدة.
(( اشتقت لأحبابي، قالوا: أو لسنا أحبابك ؟ قال: لا، أنتم أصحابي، أحبابي أناسٌ يأتون في آخر الزمان القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر أجره كأجر سبعين، قالوا: منا أم منهم ؟ قال: بل منكم لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون ))
ألا تستطيع أن تغض بصرك ؟ أن تضبط لسانك ؟ أن تقيم الإسلام في بيتك ؟ أن تقيمه في عملك ؟ أن تربِّي أولادك ؟ أن تجلس معهم ؟ هذه بيدك، لذلك:
﴿وَلَا تَمْنُنْ﴾
أي لا تضعف عن أن تستكثر من الخير، لا ترضى أن تكون في الدرجة الدنيا، وراء الباب، نحن خدَّام سيدي، لا كن سيِّداً، للحق كن خادماً أما كن سيِّداً في مجتمعك، سيدنا خالد كان علم، تأخر لكنه صار أول قائد، سيدنا الصديق، سيدنا عمر، سيدنا عثمان، سيدنا علي، هؤلاء الصحابة الكبار كانوا طموحين.
﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)﴾
أي لا تضعُف عن أن تستكثر.
4ـ لا تمنن مستكثراً عملك:
والمعنى الرابع:
﴿وَلَا تَمْنُنْ﴾
أي لا تمنن مستكثراً عملك، أنا لي أعمال كالجبال، لي مؤلَّفات، لي محاضرات، لي كذا، أي أنت تكبِّر نفسك، وهذا العمل من فضل الله عليك فلما رأيته كبيراً حُجِبْتَ عن الله عزّ وجل، بطولتك أنه مهما قدمت من عملٍ عظيم أن لا ترى لنفسك فضلاً عند الله عزّ وجل.
﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)﴾
( سورة النسا)
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)﴾
( سورة النسا)
مرَّة أخ قدَّم بيتاً لجمعية خيرية ليكون مشغل للفقيرات، بيت ثمنه عشرة ملايين أُقيم له حفل تكريم، الخطباء أشادوا بإحسانه وفضله وكرمه، إلا أحد إخوتنا الكرام ألقى كلمة أمامه وتكلم العكس، قال له: كان من الممكن أن تكون أحد المنتفعين من جمعيتنا، وأن تقف في طابور طويل لنأخذ هويَّتك وبصمتك على ثلاثمائة ليرة في العيد، ولكن الله امتنّ عليك فجعلك غنياً وقدمت هذا البيت فاشكر الله على هذا الفضل.
هذا كلام طيب، هذا كلام صحيح، أي أن هذا الذي تراه يمد يده إليك كان من الممكن أن تكون أنت مكانه، لا تستكبر على أحد، لا ترى عملك عظيماً، إذا أراد الله إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك.
التواضع علامة الإيمان:
إذاً: رؤية العمل شرك، أنا حجمي الفلاني، مكانتي، علمي، محاضراتي، هناك كثيرون ممن يستفيدون مني، هذا فضل الله عزّ وجل، الله أنطقك بالحق، كان من الممكن أن تكون خلاف ذلك، يقول الإمام الشافعي: "كلَّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي ".
والمؤمن كلَّما رفعه الله تواضع، وكلَّما أعطاه تأدَّب، لا يوجد أعظم من النصر في الحرب إنه شعور لا يُصَدَّق، سيدنا محمد دخل مكة فاتحاً فمن شدة تواضعه لله حنى رأسه تواضعاً لله حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره أدباً مع الله.
﴿وَلَا تَمْنُنْ﴾
بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجراً تستكثر به، أي لا تتخذ ما أعطاك الله إياه وسائل ربح في الحياة الدنيا، اجعلها لله خالصة، وطبعاً هذا كله موجهٌ إلى أمته من بعده، لا تمنن بهذا الذي أعطاك الله إياه لتستكثر به من الدنيا اجعله خالصاً لوجه الله، وقال بعض العلماء: " لا تعطي مالك مصانعةً ". أي مداهنةً، ومُراءاةً، هذا ينطبق على الآية الكريمة.
الإخلاص في العطاء:
إذا أعطيت عطيةً فأعطها لربك وابتغِ بها وجه الله عزّ وجل لأن الأعمال إنما هي بالنيات، ولا تقل دعوت فلم يُستجَب لي، عليك أن تعبده ولا تنظر إلى النتائج، هو حكيمٌ يعطي أو يمنع، يرفع أو يخفض.
﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾
( سورة الزمر)
وقول ابن عباس رضي الله عنه: " لا تُعطي لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال " والأمر أن تكون عطاياك لله وحده لا لارتقاب ثوابٍ من الخلق عليك.
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً (9)﴾
( سورة الإنسان )
لذلك: هذا الذي يُعلِّق أهميةً كبيرةً على ردِ فعل الناس، وعلى تكريمهم إيَّاه، وعلى معرفتهم لقدره، وعلى تقديرهم لعلمه، هذا فيه ضعفٌ في إخلاصه، إذا كنت مخلصاً كما يريد الله عزّ وجل لا تعلِّق أهميةً على ردود الفعل، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ))
( صحيح البخاري عن أبي هريرة )
الذراع أي مؤدم.
أي ملخص الملخص: أراد الله عزّ وجل من هذه الآية أن لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتورٍ لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
قمة النجاح أن تكون متواضعاً:
أنت تعيش ستين أو سبعين سنة لو فرضنا أنك عبدت الله عشر سنوات عبادة صحيحة فأدخلك الله الجنة إلى الأبد، فإن كل عبادتك مؤقتة ومحدودة، والعطاء سرمدي أبدي فمهما فعلت، مهما بذلت، مهما ضحيت، مهما وضعت إمكاناتك وصحتك ومالك في سبيل الله فأنت الرابح، لذلك لا تمنن، حتى عند المؤمنين الضعاف يرى عمله كبيراً فيحجبه عن مزيدٍ من فضل الله، النبي قال: جهدُ مُقِل.
سيد الخلق أعظم إنسان قدَّم للإنسانية الهداية سمَّى عمله جُهدَ مُقِل، أنا كنت أقول دائماً: الصعود إلى الأعلى صعب، الطريق وَعْرة ومرعبة ومخيفة وفيها عقبات وفيها حُفَر وفيها أكمات وفيها غبار وجهد شاق، فإذا وصل إلى قمة النجاح فإن هناك طريق يسقطه إلى الحضيض في ثانية (الغرور) يسقطه في ثانية، لذلك قالوا: البطولة لا أن تصل إلى قمة النجاح بل أن تبقى في القمة.
أحياناً الإنسان يجتهد في العبادات فإن الله يعلي شأنه، عندما رفع الله شأنه اغتر، عندما اغتر سقط مرة ثانية، فالبطولة أن تعلو وأن تبقى، إن بلغت قمة النجاح ينبغي أن تبقى متواضعاً لله عزّ وجل، ينبغي أن تعترف بفضل الله عزّ وجل، ينبغي أن تكون مفتقراً إلى الله عزّ وجل.