بسم الله الرحمن الرحيم
بطلتنا اليوم... هي واحدة من ممن لم يرق لهن أن يكن على هامش الأحداث، أو في حاشية الزمن فهي إحدى العظيمات في سماء تراثنا
الأشم، وتاريخنا العطر.
لما بلغ العالم الشاب خمسا وعشرين سنة، أشار عليه شيخه أن يخطب بنت القاضي كريم الدين... عبد الكريم... وكانت إذ ذاك قد بلغت ثمانية عشر ربيعا فما كان منه إلا أن لبى دعوة شيخه ونصيحته، لما كان يعتمل في نفوس طلبة العلم من توقير لمشايخهم يفوق احترام الآباء، في كثير من الأحيان.
وفي صباح يوم أغر، ذهب يقصد هذا البيت الكريم من بابه -لا عن طريق محاورات عبر شبكة الانترنت!- وانفتح مع دخول الباب، أبواب فضل عظيمة، وأسباب للبركة كريمة إذ لم يفتأ مذ عقد عليها هذا الذي يتوقد فطنة وحبًا للسنة، منذ ريعان شبابه ونعومة أظفاره أن يسقيها مما آتاه الله من جزالة علم ومتانة فهم...
وماله ألا يفعل وهو الإمام الذي لا تخلو مكتبة طالب علم أو عالم، من مؤلفه الموسوعي الفريد الذي يضاهي كتب المتقدمين متانة وجودة وتحريرا وتقريرا وتحقيقا وتدقيقا...
فعندما سئل الإمام الشوكاني: لمَ لا تصنف شرحا للبخاري؟
قال: لا هجرة بعد الفتح!
لا بد أنكم عرفتموه؛ إنه الإمام الحافظ.. شيخ الجرح والتعديل، أحمد بن حجر العسقلاني وكان من وفائه -رحمه الله- يتعهد زوجه بالعناية، كما الأطيار تعني بفراخها.
فأسمعها الحديث المسلسل، وتدارس معها الأسانيد والعلل، والمتون، والسير ناهيك عن انتظامها في حلقات مشايخ آخرين، بسماح زوجه لها؛ رغبة منه في بلوغها الأرب.
وقد دخل عليها ذات مرة وقد أصبح يتحلق حولها كبار أهل العلم!...فقال وهو يتبسم: قد صرت شيخة يا أنس! (بضم الهمزة وتسكين النون).
وكانت تملي من حفظها.. فقرأ عليها الإمام السخاوي بحضور زوجها صحيح البخاري وخرّج لها بنفسه أربعين حديثا.
وكان من عادتها -رحمها الله تعالى- أنها تحتفل في نهاية سلسلة الدروس بتقديم الحلوى للطلبة تكريما لهم وحين يتتبع الراصد لهذه الأسرة المباركة،يلحظ علاقة الحب الشفافة التي كانت تجمع بينهما، فمن قرأ سيرة الإمام ابن حجر؛ وجد له أبياتا صادقة في وصف شوقه لها، وعدم احتمال فراقها، لما خرجت حاجة إلى البيت الحرام وقد رزقهما الله خمسة من البنين والبنات...
ومات لهما ثلاثة...
ولما توفي زوجها الحافظ.، أصرت أن تظل وفية له.. فلم تتزوج بعده.
وحين حضرتها الوفاة، أوصت بجل مالها للمشاريع الخيرة، وهذا دأبها -رحمها الله تعالى- في حب الصدقة.
هذه همسة لأخواتي هنا: أن يقتفين أثرها في حب العلم، لا للعلم ذاته؛ وإنما للفهم عن الله، والتوقيع عنه في الأرض...
وما أشرف أن يكون المرء وارثا للنبوة!