لافتتان بالقبور
فإن قيل : فما الذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها ، مع العلم بأن ساكنيها أموات ، لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا ؟ .
قيل : أوقعهم في ذلك أمور :
منها : الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله ، بل جميع الرسل : من تحقيق التوحيد ، وقطع أسباب الشرك ، فقل نصيبهم جدا من ذلك . ودعاهم الشيطان إلى الفتنة ، ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته ، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل ، وعصموا بقدر ما معهم من العلم .
ومنها : أحاديث مكذوبة مختلقة، وضعها أشباه عباد الأصنام : من المقابرية ، على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تناقض دينه، وما جاء به كحديث : إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور . وحديث : لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه ، وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام . وضعها المشركون ، وراجت على أشباههم من الجهال الضلال . والله بعث رسوله بقتل من حسن ظنه بالأحجار ، وجنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق ، كما تقدم .
ومنها : حكايات حكيت لهم عن تلك القبور: إن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها . وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة، فقضيت له . وفلانا نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر ، فكشف ضره . وعند السدنة والمقابرة من ذلك شيء كثير يطول في ذكره . وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات . والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، وإزالة ضرورتها ويسمع بأن قبر فلان ترياق مجرب . والشيطان له تلطف في الدعوة ، فيدعوهم أولا إلى الدعاء عنده ، فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة ، فيحجب الله دعوته لما قام بقلبه ، لا لأجل القبر . فإنه لو دعاه كذلك في الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه ، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرا في إجابة تلك الدعوة . والله سبحانه وتعالى يجيب دعوة المضطر، ولو كان كافرا . وقد قال تعالى :" كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " وقد قال الخليل : " وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " فقال الله سبحانه وتعالى : " ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " .
فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضيا عنه، ولا محبا له، ولا راضيا بفعله، فإنه يجيب البر والفاجر ، والمؤمن والكافر وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدى فيه ، أو يشترط في دعاله ، أو يكون مما لا يجوز أن يسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه . فيظن أن عمله صالح مرضي لله ، ويكون بمنزلة من أملي له وأمد بالمال والبنين ، وهو يظن أن الله تعالى يسارع له في الخيرات . وقد قال تعالى : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء " .
فالدعاء قد يكون عبادة، فيثاب عليه الداعي ، وقد يكون مسألة تقضي به حاجته ، ويكون مضرة عليه ، إما أن يعاقب بما يحصل له ، أو تنقص به درجته ، فيقضي حاجته ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه واعتداء حدوده .
والمقصود : أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده ، وأوقات الأسحار ، فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى ، من الدعاء عنده إلى الدعاء به ، والإقسام على الله به ، وهذا أعظم من الذي قبله ، فإن شاء الله أعظم من أن يقسم عليه ، أو يسأل بأحد من خلقه ، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك .
فقال أبو الحسين القدوري في شرح كتاب الكرخي : قال بشر بن الوليد : سمعت أبا يوسف يقول : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به . قال : وأكره أن يقول : أسألك بمعقد العز من عرشك . وأكره أن يقول : بحق فلان ، وبحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام .
قال أبو الحسين : أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم ، لأنه لا حق لغير الله عليه ، وإنما الحق لله على خلقه ، وأما قوله : بمعقد العز من عرشك فكرهه أبو حنيفة ، ورخص فيه أبو يوسف .
وقال : وروى أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دعا بذلك ، قال : ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش ، مع عظمته . فكأنه سأله بأوصافه .
وقال ابن بلدجي في شرح المختار : ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به ، فلا يقول : أسألك بفلان ، أو بملائكتك ، أو بأنبيائك ونحو ذلك . لأنه لا حق للمخلوق على خالقه ، أو يقول في دعائه : أسالك بمعقد العز من عرشك . وعن أبي يوسف جوازه .
وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه : أكره كذا هو عند محمد حرام . وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب ، وجانب التحريم عليه أغلب .
وفي فتاوى أبي محمد بن عبد السلام : أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته ، لا الأنبياء ، ولا غيرهم ، وتوقف في نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ولأعتقاده أن ذلك جاء في حديث ، وأنه لم يعرف صحة الحديث .
فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به ، والدعاء به أبلغ في تعظيمه وأحترامه ، وأنجع في قضاء حاجته ، نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله . ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا ، يعكف عليه ، ويوقد عليه القنديل ، ويعلق عليه الستور ، ويبني عليه المسجد ، ويعبده بالسجود له ، والطواف به وتقبيله ، وإستلامه ، والحج إليه ، والذبح عنده ، ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته ، وإتخاذه عيدا ومنسكا وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم .
قال شيخنا، قدس الله روحه : وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب ، أبعدها عن الشرع : أن يسأل الميت حاجته ، ويستغيث به فيها ، كما يفعله كثير من الناس . قال : وهؤلاء من جنس عباد الأصنام ، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت ، أو الغائب . كما يتمثل لعباد الأصنام . وهذا يحصل للكفار من المشركين ، وأهل الكتاب ، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانا . وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة . وكذلك السجود للقبر، والتمسح به وتقبيله .
المرتبة الثانية : أن يسأل الله عزوجل به . وهذا يفعله كثير من المتأخرين ، وهو بدعه باتفاق المسلمين .
الثالثة : أن يسأله نفسه .
الرابعة : أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد . فيقصد زيارته، والصلاة عنده . لأجل طلب حوائجه . فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين . وهي محرمة . وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين . وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك . ويقول بعضهم : قبر فلان ترياق مجرب .
والحكاية المنقولة عن الشافعي : أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر .