طفل يتلمس عالم الأحلام الواقعية إنه عاشق هذا الكون وينتمي لأمه الأرض ... ضرب
لنا أروع قصص العشق البريئة.... محمد طفل لم يتجاوز الست سنوات , عاش وتربى في مدينة أجبرتها أضوائها وضوضائها أن تكون من أشهر مدن العالم حضارة , ويصر والده على أن يعلمه منذ نعومة أظفاره على أصول( الأتكيت ) ويعلمه أحسن التعليم ويختار له أجمل الملابس لكي يتمشى مع الحضارة الحديثة كما يزعمون .
وفي كل عطلة صيفية تسافر عائلة جده لأمه إلى أحد المناطق التي تتواجد فيها بعض الأرياف والمزارع لتسكن في منزل متواضع وسط مزرعة صغيرة لترتاح بعد عبء طويل من ضوضاء المدينة وحرارة جوها صيفاً .
هنا يحس بالحياة ... ويحس بالحرية والانطلاق ... هنا يخرج من جو المدينة الخانق وقيودها إلى صحو الريف الجميل وهوائها العليل .
ما أن يضع قدميه على عتبة الباب وقد أتاها ليلاً ينام مبكراً كي يستيقظ باكراً , وفي الصباح الجديد ينطلق كالسهم إلى المزرعة ليستنشق نسيمها العليل ويشده منظر تمايل أغصان المزرعة التي تتراقص مع أنغام ة العصافير وصياح الديك , ثم يتجه يسرة ليرى حضيرة الأغنام والدواجن يدفعه أشياء ما بداخله ليتجه إليها مسرعاً ليلقي نظرة حميمة ويسلم عليها ..ألف سؤال وسؤال يدور في ذهنه حول هذه المخلوقات الجميلة ؟!! كيف
تطير ؟! ما هذا الشيء الذي فوق رأسها ؟!! ولماذا يصيح الديك هكذا ؟!! فكانت خالته حيينها بجانبه فأجابته إنه يؤذن ,عندها وببراءة الأطفال قال لنفسه يؤذن حتى تصلى الدجاجات .
يظل على هذه الحال متنقلاً .... ومتسائلاً هنا وهناك كنحلة تبحث في كل زنبقة حتى تتوسط الشمس كبد السماء عندها تبداء حرارتها تلسع وجهه البريء تصبغه بلونها القرمزي ... هنا تطل أمه برأسها من خلف أسوار البيت صائحة به أدخل يابني كي لآتصاب بضربة شمس ,, بالرغم من حرارتها إلا أنه يحس بدفء وحنان المزرعة تجبره والدته على الدخول وتوعده بالخروج بعد خروج الأغنام وقتها ومرعاها فيوافق على ذلك ... وينتظر العصر أحر من الجمر بعد إن استحم ولبس ملابس نظيفة وتحذره والدته بعدم اتساخها , ما أن يراها يهب إليها مسرعاً كأنه حلم طال انتظاره ... فتتعلل في نفسه أعلى درجات النشوة أحبك يالله .. أحبك يأرض .. أحبك يا سماء .. أحبك يا شمس .. أحبك يا أشجار .. أحبك يا أغنام .. فعند منتصف الطريق يجلس لينتزع حذائه ثم يركض حافياً ليطارد تلك الأغنام كأن رجليه تعزف على أوتار موسيقى الدنيا بأحلام الطفولة وكأنه يطير في فضاء البهجة والفرح يتراقص معها يمنة ويسرة فحين يلاحقها وحين تلاحقه ويقول في نفسه لا( للئتكيت )لا للقيود لا لزخرف الدنيا , ثم يلتفت فيجد جده يتفقد المزرعة فيترك الأغنام ويلاحقه فيختفي جسمه الصغير النحيل بين تلك النخيل الباسقة التي سقيت عروقها من البركة الصغيرة المندفع مائها من البئر وملئت أحواضها بالماء فيطل عليها ليرى انعكاس صورته على الماء فمد يده ليكتشف السر ما لبث إلا أنه ممسك بطين وقد تلطخت ملابسه الجديدة التي شريت من أفخم محلات المدينة وأزهاها شكلاً وأنواراً, في لحظتها لم يكن يبالي لم تكن الملابس تعنيه شيئاً لم يكن في لحظتها إلا أن يلعب بالطين الذي هو روح الأرض الطاهر , بعد أن قذف قبظة من الطين على الأرض رفع عينيه اللامعتين لينظر إلى المزارع وهو يحصد قليلاً من النباتات فينهض ليتجه نحوه .. وقف عنده ... حدق به برهة .. نظر إليه بإعجاب وإكبار تدور في نفسه أفكار قد لا تذهب إلى ألابد ياله من ذكي !! فيدفعه حب استطلاعه لذلك الرجل المزارع ويسأله ماذا تفعل ؟! فيجيبه أقطع الشجيرات , كأنه يريد أن يتعلم شيئاً من هذه المهنة العجيبة لا يدرك أنها فطرة تدفعه لذلك ولا يعلم أنها مهنة آبائه وأجداده ولا يعلم أنها هي المهنة الأصلية لبني آدم على الأرض ما أن ينتهي المزارع من قطع النباتات , يلتفت على كثيب من الرمل التي تحتل ثلث المزرعة وبها قليلاً من الأراجيح ليكمل ما تبقى من وقت العصرية مع من حوله من الأطفال على هذه الرمال الذهبية فتصفر شيئاً فشيئاً والشمس تغيب شيئا فشيئاً ...... يسمع صوت الطيور وهي عائدة إلى أوكارها لتعلن عن موعد قرب الليل وظلامه وهذه منارة المسجد شامخة تتأهب لرفع آذان المغرب , ما أن يسمع الله أكبر .. حي على الصلاة .. حي على الفلاح ... حتى يستعد للقيام والعودة في بضع خطوات إلى المنزل فتأتي أمه تناديه أدخل يابني أنت وأخوك عن الظلام فحين يقترب من أمه تتفا جئ بتلطيخ ملابسه النظيفة وتحولت إلى ملابس بالية متسخة فتعاتبه أشد العتاب وتزمجر علبه فتطلق عليه اتهامات عنيفة لماذا اتسخت ملابسك ؟ أأنت مهمل فيحدق فيها كأنه لا يسمع شيئاً فيبتسم ويظهر ضحكات متقطعة , ماذا تقول عنه بليد لا يحس !!! ربما لا نعلم أنه مازال يعيش لحظات البهجة والأنس التي لم تنقطع عنه ... فتمسك به والدته بيده وتذهب به كي تنظفه وتبدل ملابسه .
فبعد وقت المغرب تخرج العائلة إلى فناء المنزل المطل على المزرعة لتتسامر مابقي من الليل عندها يقترب ليطل على المزرعة ومكان بيوت الطيور والأغنام يتأمل مكانهما إنهما تحت القمر المضيء هذه بيمينه وهذه بيساره أنه لايراهما بعينيه كأن ستار الليل الأسود حجب عنه رؤيتهما لا يسمع إلا صوت الحشرات الليلية فتهمس المزرعة في قلبه تحاكيه تناجيه غداً سنلعب ثانية غداً لنا لقاءً آخر ,, يرجع ليكمل اللعب مع أخيه وخاله وجده وعائلته كلها .
ما أن يحين موعد النوم وهو على فراشه المتواضع يقول لأمه كل مواقفه مع أحبائه .......... كأن أحلامه سابقة لميعادها ............. ثم ينام نوماً عميقاً إنه تعب لكنه تعب خالطه اللذة بالبهجة فينام على أحلام العصافير وعندما تشرق الشمس الجديدة يستيقظ فله معها لقاء وعناق , يتكرر هذا الموقف بضع أيام وليالي ... وتمضي الأيام حبلى بالكثير والكثير من المباهج .. وحين تأتي الليلة الأخيرة .. بعدها سيفارق معشوقته .. يبيت .. ولكنه يراقب القمر .. هذه الليلة مختلف .. أنه قمر الوداع .. أين هذا القمروالليلة الأولى .. حين رأى القمر فيها كأنه شديد اللمعة .. ولكنه الآن متشحا بسواد .. أغمض عينيه .. ولم يفتحهما إلا صوت أبيه .. قم يابني إلى المدينة .. كان أول سؤال نطق به .. بابا متى نرجع إلى المزرعة ؟