للأرواح صور، للصور أرواح
للكاتب الدكتور: محمد الدروبي
أشرف الفجر ، لكن الروح كانت لا تزال مبللة تنزف بين فكي النهاية . النهاية شيء جلل قد لا يستسيغه الإنسان ولو كان ذا حكمة ، ولو كان ذا أيمان بأحكام القدر . العودة إلى الوراء أمر دونه المستحيل . النظر إلى الخلف بذاته هو التواء في النفس مخيف ، محزن ، لا يحتمل . المضي قدما في الحياة أضحى دربا مرهقا يفتقر الأنيس ، ينقصه الأنس . عشرة طويلة، قوية ، عميقة ، أعطت لحياتي بعدا واحدا . كانت ثمة حيرة تمتلكني وأفق من الفراغ يمتد أبعد من مسافات الرؤية الممكنة . والليل ؟
الليل وحش موحش . الليل جردني من كل نزعات التمويه المكتسبة أو الموروثة . عراني حتى زمن الطفولة الأول . عرى روحي حتى آخر رمق من التملق على أحوال الزمن المتقلب على كف لا يستقر على حال . الليل كان عدو ثقيل . تمنيت عليه أن يرحل ، أن يتركني على انفراد مع أحزاني الطازجة . أعرف أن الأيام تخفف من وطأة الحزن ؛ أعلم أنها تشترط علينا أن نعيشه ، وأن ندونه في سجل الذاكرة الأبدية . الليل المتعالي يستكثر علي هذا ، يستنكره علي ، ويجول روحي في جزائر العراة . هناك ، على الشواطئ المسكونة بألف شيطان ، يمزق آخر وريقات الأمل عن جسد أسيرته ويعرضها على ناس بلا أرواح ، على أرواح بلا ناس . أنها خلوة الليل القاسية مع النفس الميتمة للتو .
الفجر تأخر في ذلك اليوم الموصوم بعار النهاية المأساوية لمجد من الحب ، لحب مجيد . تحالف مع الليل ضدي ، أنا المخلوق المروع أمام جحافل الماضي وقد أوصدت الأبواب . أقول قولي هذا ولا أقصد بعث مشاعر الشفقة أبد . على العكس، لا تشفقوا على رجل يتسكع في أروقة الحزن ، أشفقوا واطلبوا من الله الشفقة على رجل لم يعرف الحزن إلا في وجوه الآخرين ، أو في عيونهم أو في دموعهم .
تأخر الفجر كثيرا ، لكنه أتى . كان محملا بصقيع الشمال . هكذا أكدت المذيعة لأحوال الجو في المساء السابق . كانت صادقة . لكنها ، على ما يبدو ، لم تعرف بعد غير الصقيع المنفوث من عباب الجليد والثلج . صقيع الوحدة بعد إدمان ، صقيع الكارثة بعد الخلود إلى الأمان ، هل عرفته ؟ هل جربته ؟
في ساعة الفجر الأولى نهضت من فراشي البارد . فراشي كان رطبا فكأنني أمضيت الوقت تحت سماء مشبعة بندى كثيف . المريض يتعرق ، إنما المفارق ينضح عرقا ولا يكتفي ؛ يستجير بالدموع . كنت حائرا من أمري ومن أمر يومي . ماذا أفعل بالوقت المشرع أمام الرؤية كنصب حجري بلا وعود ، بلا حياة ؟ بل ماذا يمكن لامرئ كبل الوجد والحنين إرادته أن يفعل في متسع من فراغ لا يملأه حلم ؟
نظرت عبر النافذة . لا نرى دائما ما نشتهي ، بل قلما نختار ما نرى . سجايا العيون تسجل وقع الخطوات في دروب الحركة . الرابية الناهضة قليلا ، على الطرف الآخر من النهر ، هي التي فتحت ذراعيها لتحتضن رؤيتي . هناك ، ذات مرة ، وقفت مع منعشة الفؤاد ، ورسمنا معا خطا في عالم الأمل . كنا يومها نكتب قدرا مشتركا في سجل نظيف . كنا يومها قليلي الأيمان بغدر الأيام وتقلبات مزاج الزمن . لا يضر . أليس الحب هو الإنعتاق من الضرورة ؟ أليس الحب هو ممارسة اللحظة ؟ أليس الحب هو النشوة التي تأخذ الحلم إلى البعيد الممكن ؛ وإلى البعيد غير الممكن ؟ أليس الحب هو فن تلوين الليل بلون الذكرى الخالدة ؟
هو كل هذا . هو غير هذا أيضا . هو حي ننكر عليه حالة الضعف ، حالة الوهن ، حالة المرض ، حالة الموت. الحب يجب أن يعيش أكثر من صاحبه بقليل . هكذا يقول المحبون . لكن الأرواح قد تموت قبل الجسد. العكس ليس صحيح ؛ الجسد لا يموت قبل الروح أبدا . لماذا إذن نستنكر على الحب قدره السيئ بينما نهيم في قدره ذي الرونق الإلهي؟
ذات مرة ، فوق الرابية تلك ، على مقربة من أشجار السنديان الشامخة ، المغرورة حتى ، وقفت مع نديمة الروح . وقفنا طويلا . كنا نشعر أننا جمدنا الزمن ، أننا جمدنا العالم . عقارب الساعة آلة همجية تدوس على اللحظة النادرة ، السعيدة ، وتحولها إلى بقايا محمية ، معلبة ، مرصوفة على رفوف الذاكرة . الأطلال قد تفيد في السلوى ، قد تفيد للبكاء . الأطلال تشهد على موت معزوفة الحب الصاخبة ، وعلى اندثار الحياة دون معالمها . كان الوقت عصرا . كان الوقت شيئا لا ندركه ، شيئا لا يدركنا . كان الحنان يتمرد على قوالب الطفولة ، على معابد المراهقة ، ويحثنا على اختراق اللامعقول المعقول . كانت القبلات عملاقة ، مخصبة ، حارة ، تتوالد من بعضها البعض . حرقنا كل المصائب ببسمات سخرية يعلوها طلاء من الوداعة . كلا ، من البراءة . قالت لي :
- أخاف منك، فلحظة الحب لحظة جنون .
آه لو كنت من المجربين . آه لو كنت أدري . بداية الحب ونهايته شريكان يتقاسمان العقل . آه لو كنت أعلم أن الحب صعود في إطار مغامرة خطيرة . الصعود يشبع الغرور ؛ الصعود يكون مشمولا بعناية الإله والحظ السعيد . السقوط صعب . السقوط من قمم الحب لا يصل نهايته أبدا ؛ يبقي المرء معلقا في الفراغ . الوادي السحيق مفتوح كفم حيوان يصرخ جوعه. الخوف من النهاية يُبقي المحب معلقا إلى نجوم السماء القريبة من الفجر . التعلق في الفراغ فيه بعض أنس يعرفه المحبون المقتولون بالمفاجأة ، بالنهاية .
في ذاك الفجر ، حيث الحنين والنقمة تحشرانني في غلظة من أمري ، سحبت أخر مدخراتي من الشجاعة. مضيت بغتة إلى المجرور والدمعة المعارضة تثور في عينيَّ . سحبته . العجيب أن يدي لم تكن ترتجف ، لم تكن تتردد ، لم تكن تحتج ، بالرغم من أنني كنت مشرفا على اختراق المحظور . يدي فضت غطاء العلبة بخشونة ، برعونة ، وتناولت من بين الصور صورتين . اختطفت نظرة أو نظرتين سريعتين منهما . كانت الروح تتمزق . هاأنا مجددا أمام الحبيب . الحبيب صورة . رؤية الحبيب المجحف يعيدني إلى أشد حالة الضعف ، إلى فقدان الإرادة . لا أريد أن أراه فيعيدني إلى بداية المشوار، إلى نقطة الافتراق . لا أحب أن أمشي في درب مرتين . لا أستطيع أن أمشي في درب الفراق مرة أخرى أبدا . لكن النور يلفت النظر . صورة الحبيب حضنا من النور والدفء يجذبني من مسافات النسيان ، من مسافات الحرمان ، من دهاليز السفر . لكني أتحايل . أنا إنسان ، أنا أتحايل على مواطن الألم في حياة تنذر بالكثير من التقلبات ؛ وبكثير من الألم أيضا . أغمضت عينيَّ المتعبتين من حمل الليل ومن تحامل الحبيب . دسست الصورتين في جيبي وتنهدت من الأعماق . يكون المرء بحاجة إلى نفس طويل ، عميق ، عندما يصبح الصراخ نوعا من الأمل ، نوعا من المستحيل ، نوعا من غصة تخنق لكن لا تميت .
خرجت سريعا إلى الشارع . الحبيب المعلق في الفراغ يتمسك بشعر رأسه ، ويأمل . الحب إدمان . عودة المدمنين إلى إدمانهم يحتاج همسة ، أو هزة ، أو حتى لقاء . هربت من تأنيب الماضي المتعصب للحظة الحلوة ، من عصا الذكرى ، من عنف الخسارة ، من مطالب تشحن صدى اللحظات الحلوة إلى النفس المصلوبة على جدار الصمت ، على جدار الموت . انتابني الخوف من أن أعيد الصورتين إلى مكانيهما . من لديه الجرأة في مواجهة ميت يحيا من جديد ؟ ألم يخبرني الليل أن الحبيب قد مات ؟ ألم يقل لي أن الحبيب الذي فارق هو حبيب قد مات ؟ ألم يؤكد لي الليل أن دفن الحبيب فيه من الفضائل فضيلة النسيان ؟ بيد أنني رجلا معلق في الفراغ . الهروب يفيد في الحسم . ابتعدت عن البيت . مضيت نحو الرابية التي شهدت ولادة عهود ووعود لا تحصى وموت حب واحد . أحسست أن العزيمة تنهض من عباب الكساح المدمن وتشتد قوة . التسليم بالمصيبة نصف الطريق إلى هضمها . وقفت في ذات المكان الذي تشرف بلقاءاتنا العديدة وبعهدنا الأول . أتذكر أنها عضت يدي حتى نز الدم منها . أتذكر أنني عضضت يدها حتى نز الدم منها . وضعنا الجرح على الجرح ، وقلنا عهدنا أن لا نفترق إلا بالموت . وجاءت قبلاتنا اللاحقة ترانيم ساحرة لطقوس الحب الساخن .
وقفت في ذات المكان الذي يشغل حيزا واسعا في كياني . أخرجت الصورتين بقلق هادئ . أغمضت العينيين بهدف استجماع القوة ورصد الإرادة . نظرت إليهما أخيرا ملء العينين ، بحجم الأشواق في النفس . تأملتهما بحزن لا ضابط له . هذه المرة كنت أكثر جرأة ، وأكثر إصرارا ربما ، فأطلت التبلق إليهما . يبدو أن التسليم بالنهاية ينير الوجدان ويجعلنا نقف على أقدامنا ، على بقاياه . وداع الميت يحتاج وقفة ونظرة متميزة بالصبر . صورة أجمل من صورة والشخص ذاته . هي الصدفة ولا شك . هو حسن الحظ أيضا . حملت الصورة الجميلة على كتفي ، وترنحت في السير نحو أشجار السنديان . كان الحزن ، في أثناء ذلك ، يتوسع في دائرة روحي ويكاد أن يبلغ مبالغ خطيرة . لكن من يحزن أكثر مما يحتاج ؟ من يحزن وفق أرادته وكيله ؟ الحزن يأتي بقدر المصاب .
وصلت إلى شجرة السنديان الأكبر ، الأعتق ، الأجمل . كانت الشمس قد أشرقت ، لكن الصبح لا زال باردا . كانت الرؤية واضحة في الأفق فكأنما السماء أمطرت حتى فرغت . الدموع كانت تنهمر من عينيَّ في الحقيقة، فكانت تجلي النفس وتشدها إلى معالم الصفاء . البكاء يطهر الروح . تطهير الروح يشحذ الرؤية وينقي الجو . أنزلت الصورة عن كتفي . تأنيت ما استطعت بالفعل المدعم بالخشية وبالخشوع . وضعتها على الأرض ، على مقربة من جذع الشجرة ، ورحت أحفر لها قبرا . قبر الحبيب يجب أن يكون عميقا ، على الأقل بعمق مقامه في النفس . الطبيعة كانت صامتة كصورة الحبيب الميت الملقاة جانبا . حتى النهر القريب بدا كمن كتم هديره . الصمت أشتد إلى حدود مهيبة لا تطاق ، وذلك حين وقفت عند رأس الصورة وتوجهت إلى وجه الله طالبا الرحمة للميت . استغفرت لها حتى بح صوتي ثم أنزلتها إلى المثوى الأخير . نثرت عليها التراب والرحمة والدموع ساعة أو يزيد . فعلت ذلك ببطء ، فعلت ذلك بثبات كنت أظن أنه قد خرج من طباعي. نهض التراب فوقها . أضحى قبرا بفضل حزمة من الورود القريبة وحجر مسطح نصبته ناحية الرأس وكتبت عليه:
الحبيب صورة
موت الحبيب موت صورة
دفن الميت نهاية الحزن
رحمك الله كم كنت مشرقا ، كم أشرقت في النفس
في طريق العودة جلست على ضفة النهر . غسلت اليدين وغسلت الوجه . كانت الشمس قد ارتفعت مزيدا وصارت أكثر نورا وأشد دفئا . الناس خرجت من البيوت ، ودبت الحركة في الطبيعة . أخرجت الصورة الأخرى من جيبي . صور الشخص ما شئت ، فلن تكون صورة مثل صورة . الصور الأقل جمالا يجب أن تمزق . مزقتها بلا تأنيب ضمير ، بلا تردد . رميت أشلاءها في النهر وليأخذها إلى البعيد ، إلى الضياع الأبدي . يكفي أن تموت صورة الحبيب لنرمي بقاياه في النهر . بدا لي أن دفن صورة الحبيب هو دون سواه نهاية الحب ، وهو دون غيره نهاية الحزن . وعلى كل ، شعرت ، وأنا إلى جانب النهر ، أن النشوة تنتعش في الصدر ، وأن إرادة الحياة تنهض من فراشها ، من مرضها ، من وهمها الكبير .