معتقدات وتصورات العرب في العصر الجاهلي –قبل الإسلام
من كتاب في تاريخ العرب قبل الإسلام , تأليف : الدكتور سعد عبد الحميد زغلول .
الحياة في التيه والقفار والبوادي – كما كانت الحال بالنسبة إلى الصعاليك – كانت تثير في النفس الانفعال وتدفع إلى تداعي الصور والخيال , في عالم ماوراء المحسوس من الجن والشياطين والغيلان والعفاريت والاطياف والهواتف والنفوس والارواح , ولقد أفرد المسعودي لذلك بعض فصول طريفه في مروج الذهب .
النفس :
ففيمايتعلق بالنفس كانت لعرب الجاهلية مذاهب . فمنهم من تصور أن النفس هي الدم لا غير, كما يروي أن الشنفري عندما سأل ابن أخته تأبط شرا عن كيفية فتكه برجل كان قد قتله , رد عليه الصعلوك الذائع الصيت بنفسه قائلا : "ألجمته عضبا, فسالت نفسه سكبا ", فشبه دم القتيل بنفسه . وفي هذا المعنى قال ابن براق :
وكم لاقيت ذا نجب شديد تسيل به النفوس على الصدور الهام :
وكانت جماعة أخرى ترى أن النفس طائر ينبسط في جسم الإنسان,فإذا مات أو قتل لم يزل مطيفا بهفي صورة طائر – أطلقوا عليه اسم "الهام" –يظل يصرخ على قبر الميت مستوحشا . وأغلب الظن أن الهام كان طائر البوم نفسه , إذ تقول الرواية أنه كان يبدأ طيرا صغيرا ثم يكبر حتى يصير كضرب من البوم ,وهي تتوحش وتصدح , وانه كان يوجد في الديار المعطلة وفي المقابر (النواويس ) وفي ذلك قال حاتم الطائي :
أتيت لصحبك تبغي القرى لدى حفر صدحت هامها
وكان يعتقد في أن الهام كانت تبقى بالقرب من مساكن ولد الميت لتعلم مايكون بعده فتخبره به . ووفي ذلك قال الصلت بن أمية لبنيه :
هامي تخبرني بما تستشعروا فتجنبوا الشنعاء والمكروها فكأن الاعتقاد في الهام رغم سذاجته كان بمثابة وازع أو رادع عن فعل المنكر بالنسبة لصاحبه .
الغول والسعلاة :
واعتقدت جماعات أخرى في وجود الغول ,وهو :"اسم لكل شيء يعرض للسفار , ويتمثل في ضروب من الصور ,ذكرا كان أو أنثى ,الا أن كلامهم على انه أنثى " . والمفروض أن الغول تتراءى وتتلون , خاصة في الليل الخلوات والقفار , وأنها توقد النيران وتصدح بالالحان , فتوهم من يراها أنها انسان فيتبعها فتضله عن الطريق حتى يتوه . وفي تبدلها وتغيرها قال كعب بن زهير الطائي : فما تدوم على حال تكون بها كما تلون في أثوابها الغول وفي نيرانها وألحانها , قال أبو المطرب :
فلله در الغول أي رفيقة لصاحب قفر حالف وهو معبر أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت حوالي نيرانا تلوح وتزهر
هذا, كما روى عن عمر بن الخطاب انه شاهد الغول في بعض أسفاره إلى بلاد الشام .
ورغم مايقوله المسعودي من أنهم فرقوا بين السعلاة والغول , فالظاهر انهما اسمان لنفس الصورة التي تظهر في شكل إنسان له أرجل عنز وعينان مفتوحتان بالطول على خلاف أعين الناس . ففي وصف السعلاة قال بعض الناس :
وحافر العنز في ساق مدملجة وجفن عين خلاف إنس بالطول
وفيما يتعلق بالغول , قيل إنها كانت تفر إلى بطون الاودية ورؤوس الجبال إذا صيح عليه :
يا رجل عنز انهقي نهيقا لن تترك السبسب والطريقا
وفي الغول والسعلاة جميعا ,قال عبيد أيوب :
وساخرة مني ولو أن عينها رأت ما رأت عيني من الهول جنت أبيت بسعلاة وغول بفقرة أذا لليل وراى الجن فيه أرنت
هذا إلى جانب ماتصوره العرب من وجود النسناس الذي يتكلم ويقول ,وعنقاء مغرب ,والعربد , مما يشكك المسعودي في وجوده ليس من طريق التعقل إذأن ذلك غير ممتنع في القدر .
العنقاء :
والعنقاء طائر من أحسن الطير , له وجه إنسان وأربعة أجنحة وتوجد في بلاد قيس عيلان وهي تأكل كل الوحوش والصبيان, وفيها يقال :" جاء فلان بعنقاء مغرب " أي جاء بأمر عجيب .
الشياطين :
ومنها الغدار الذي يكون في أنحاء من اليمن وفي التهائم وكذلك في صعيد مصر , ويمكن أن يصيب الإنسان بأنواع من المرض أو يوقع الذعر في قلب من يراه حتى يقع مغشيا عليه إذا لم يكن قوي القلب ويعلق المسعودي على ذلك بمنطقه العلمي , فيقول :" ويمكن أن يكون ضربا من السوانح الفاسدة والخواطر الرديئة أو غير ذلك من الآفات والادواء المعترضة لجنس الحيوان من الناطقين وغيرهم " .
ويعتذر المسعودي عن عدم ذكره ما قاله المصنفون لكتب البدو كوهب بن منبه وابن اسحاق وغيرهما , من أن ماذكره من هذه الكائنات وغيرها نتج من بيض الجن التي تفلقت عن القطارب (مفردها قطربه ) في صورة الهرره, والا بالس في البحور , والمردة في الجزائر , والغيلان في الخلوات والفلوات , والسعالي في الحمامات والمزابل , والهوام في الهواء وغيرها من الرواسق والحماميص .
الهواتف والجان :
وكثر الاعتقاد في الهواتف والجان في الحجاز في الفترة التي ولد فيها الرسول وفي أولية مبعثه ,أي القرن السادس الميلادي , وفي ذلك قيل أن الجن قتلت عددا من رجال مكه المعروفين .مثل علقمة بن صفوان وهو جد مروان بن الحكم لأمه, وحرب بن أمية , ومرداس بن أبي عامر السلمي المغني . والجن كما توهمهم العرب نوعان : اعلاهم وأشدهم الجن واخفضهم واضعفهم الحن .وفي ذلك أنشد الرجز : مختلف نجرهم جن وحن . هذا والحن ليست كلها شريرة فمنها الطيب لبخير الذي يدل الضالبن عاى الطريق .
القيافة والزجر والعرافة :
إذا كان ما اعتقد فيه العرب من الجان والغول والهواتف وغبرها أمرا طبيعيانتج عن توحدهم في القفار وتفردهم في الاودية مما يؤدي إلى التفكر الذي يؤدي إلى الجبن الذي يؤدي بدوره إلى الظنون الكاذبة والاوهام المؤذية , كما يعرض لذوي الوساوس , فان القيافة والزجر والتفاؤل والتطير أمور يدركها الفطن من الناس والمتدرب الظنن . وينص المسعودي على أن العرب اختصوا بهذه الامور دون غيرهم , وأنها أن وجدت عند بعض الأمم كالافرنجة فيمكن أن يكون ذلك موروثا عن العرب , ومأخوذا منها في سالف الدهر أو بعد ظهور الإسلام , عن طريق الاندلس وفرنسا .
والقيافة من القفو وهي خاصة باثبات صحة النسب عن طريق تشابه بعض أعضاء الجسم . ولقد برع العربالذين اهتموا بعلم النسب حرصا على نقائهم الجنسي بالقيافة التي صارت : "ضربا من ضروب البحث , والحاق النظير في الاغلب بنظيره " , فهي من هذا الوجه أشبه بقضايا القياس العقلية . وتتبع الأثر بالنسبة للسائرين يعتبر من القيافة , وذلك كما فعلت قريش عندما خرج النبي مع أبي بكر مهاجرا من مكة إلى يثرب :" فقد قفت القافة بقريش ..... حتى أتت باب الغار على حجر صلد وصخر صم .... فحجبهم الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم .
ومع أن القيافة مسألة علمية عقلية فإن الكتاب العرب ألحقوا بها الزجر , وهو التطير عند رؤية حيوان أو طائر أو عرض من العوارض والتعبير عن ذلك بالتفاؤل والتشاؤم . فالظباء السود عندما تعترض الركب في فيفاء قفر تعبر عن الشؤم :" وذلك أن السانح مرجو عند العرب والبارح هو المخوف ".
ومع أن أهل الجبال والقفار أكثر الناسمعرفة بالقيافة والزجر , فلقد نبغت بعض القبائل في هذه الامور فممن نبع في القيافة بنو مدلج, وأحياء من مضر بن نزار. والنموذج ذلك ماينسب إلى أبناء نزار الاربعة : مضر وربيعة واياد وأنمار الذين نظروافي أثر جمل ضال فعرفوا من خطوه ورعيه وبعره أنه : أعرج , أعور , أهوج مقطوع الذهب , مما أثار دهشة حكيم نجران . وأما الزجر فقد اشتهر به بنو أسد .
الكهانة والعرافة :
ويرتبط الزجر بالكهانة والعرافة وهي ادعاء علم الغيب على أنها هي الاخرى تتطلب الفطنة والفراسة وصفاء النفس ولطافة الحس . وإذا كان أهل البرأقوف وأزجر كما يقول المسعودي فإن أهل المياه أي الحضر أكهن . والكهانة أيضا تكون في العرب أكثر مما في غيرهم من الأمم لأنصفاء النفس ورقة المزاج لا تتأتى الأ (( بكثرة الوحدة وادمان التفرد وشدة الوحشة من الناس وقلة الأنس بهم )) . ومن أشهر كهان العرب طريفة الكاهنة التي عاصرت عمرو مزيقياء وكان لها دور ها الهام في هجرة الأزد من اليمن إلى الشام . وربيعة بن ربيعة بن مسعودبن مازن الغساني المعروف بسطيح الكاهن ,الذي كان يدرج جسده كما يدرج الثوب لا عظم فيه الا جمجمته , وشق بن مصعب بن شكران أترك النزاري وهو معاصر لسطيح .
والعرافة دون الكهانة في المرتبة , ومن أشهر العرافين عند العرب : الأبلق , والأجلح الدهري , وعرو بن زيد الأزدي , ورباح بن عجلة عراف اليمامة .
وإلى جانب التنبؤ وعلم الغيب كان الكهان والعرافون يقومون بتطبيب المرضى ومداواتهم . وفي كل من عرافي اليمامة ونجد قال عروة :
جعلت لعراف اليمامة حكمة وعراف نجد أن هما شفياني
وكان للكهان والعرافين أسلوبهم الخاص في الحديث مما يكون له أثره في نفوس السامعين , فهم يطلقون الكلام في شكل نثؤ مسجوع أو شعر منثور , فهم من هذا الوجه أشبه بالشعراء في الجاهلية , فمما ينسب إلى طريفة الكاهنة قولها :" أن الشجر لتالف وسيعود الماء لما كان في الدهر السالف " , و " أجل أن لي الويل , وما لك فيها من نيل , فلي ولك الويل , مما يجيء السيل ". ومما ينسب إلى سطيح الكاهن قوله : "والضياء والشفق , والظلام والغسق , ليطرقنكم ماطرق " و " أمر يسد النقرة , ذو حبسة في الوجرة , وحرة بعد حرة , في ليلة قرة " , و " ما كان من العبر الاقمر , والظليم الاحمر , والفرس الاشقر , والجمل الازور " .
وهكذا يمكن القول أنه كانت هناك علاقة ما بين الكهانة والعرافة والشعر , وخاصة أن كثير من أخبار كهان الجاهلية وعرافيها , كما هو الحال بالنسبة لاخبار العرب وأيامها , وصلتنا عن طريق الشعراء .