لأهمية تحسين الصوت مع الاهتمام بمخارج الحروف ووضوحها مع اتقان التجويد احببت نقل هذا الموضوع عن قراءة الشيخ الحصري رحمه الله
فنُّ التغني بالقرآن الكريم عند الشيخ الحصري
لا شك أنه قد تغيرت الأذواق في هذه الأيام عما كانت عليه قبل عشرين أو ثلاثين سنة في الأقل - وهي المدة التي عشتها ، ونشأ إدراكي فيها - أعني التذوق في السَّماع .
ولا بأس بالتغير إن كان في وجهة التنويع ، ومن باب الأولى إن كان في وجهة التحسين ، بل هذا محمود .
ولكنه تغير في ظني إلى السيِّئ ، وأظن أن من أسبابه - أو من آثاره إن شئت - هذا الضجيج العالي مما يمكن أن يُسمَّى التلوث السمعي أو الصوتي ، وليس هذا التلوث في علو الصوت وقبحه فحسب ، ولكن في رداءته وسذاجته ونشازه ، بل في رعونته وبلاهته .
ولا تظن أني أعني المضمون أو المعنى أو الكلام ، فلهذا بابٌ آخر من القول ، ولا يبعد أن يكون ما أعنيه أثرًا من رعونة الفكر ، ومن سخافة الاهتمام !
وشؤون المجتمعات الإنسانية متداخلة متفاعلة ، فالانحراف السماعي نوع من الانحراف الفني والأدبي في الجملة ... وهلم جرًّا .
وهذا الانحراف يمكن مقاومته ومحاصرته ، لا بحجبه أو إلغائه ، فهذا غير مُجْدٍ وغير ممكن ، ولكن يكون بإنشاء البديل المنافس له ، والفطرة الإنسانية ترجع إلى الأجدى والأجمل عند وجدانه ، وأما إنشاؤه وإحضاره فهو عمل نخبة من المجاهدين في مطاردة القبيح بالجميل ، والسيئ بالحسن ؛ ذلك أنه إذا أردت أن تُكسد سوق سلعة فأت بالبديل المنافس لها .
ولا تظن أن هذا يجري على الغناء والإنشاد الديني فحسب ؛ لأنه يجري على تلاوة القرآن الكريم أيضًا .
وليس هذا مردُّه إلى الفرق بين القديم والجديد ، أو بين القدامى والمعاصرين ؛ لأنك لن تعدم النماذج المتقنة المتَّزنة في عصرنا في الغناء والإنشاد والقراءة ، على قلتها .
وقد شرفني الله - تعالى - بتعليم القرآن الكريم ، وكنت أوصي طلابي - مع الوصايا النظرية - بنماذج يقتدون بها ؛ لأنه لا يغني التقعيد النظري إلا أن يقترن بمثال يُرَى فيه تحقُّقُ القواعد في عمل .
فكنت أوصي بالاستماع إلى أعلام المدرسة المصرية في التلاوة ؛ لأنها جمعت إتقان الفن القرائي ، وإتقان الفن الإبداعي .
وفي أول هذه المدرسة من أصحاب التسجيلات المعاصرين : شيخ عموم المقارئ المصرية على أيامه : الشيخ محمود خليل الحصري ( 1337 - 1400 هـ = 1917 - 1980 م ) ، رحمه الله
وامتداح قراءة الشيخ الحصري من ناحية الإتقان ليس بدعًا من القول ، فيكاد يكون إجماعًا من أهل هذا الفن ، فهو من أمثل النماذج التي يمكن أن يشار إليها في تجويد الحروف العربية ، ومن آخر ما بلغني في هذا ما قاله فضيلة الأستاذ المقرئ الشيخ محمد تميم الزعبي الشامي منشأً ، المدني إقامة ، عضو لجنة مصحف المدينة المنورة - في مقدمة تحقيق المقدمة الجزرية ( ط1 ، 1429 = 2008 ) : " ولعل من أشهر من نطق بالحروف الصحيحة الشيخ محمود خليل الحصري - رحمه الله - خاصة في رواية ورش " ( ص39 ) ، يقصد في ختمته المسجلة برواية ورش .
وأما فن التغني فهذا هو مجال القول ، وهذا ما تختلف فيه الأذواق ، وما أزعم أن قلة تقديره خللٌ في الذوق السماعي .
والوصف في هذا الباب ليس سهلاً ، ولا بالغًا حقيقة الموصوف .
وأول ما يُعجب في الصوت إصابته واتِّزانه بلا نشاز ، وهذا مقدَّم على صفائه وخلوه من الشوائب المؤذية للسمع ، ومقدَّم على قوته وصلابته ، لأن الصفة الأولى تقع في موقع الغاية ، والصفتين الأخريين تقعان في موقع الوسيلة ، وإذا حسُنت الوسيلة والغاية فبها ونعمت ، وإن بلغْنا الغاية بوسيلة ليست جيدة كل الجودة ، فقد حصَّلنا المقصود على كل حال .
والعجيب أن صوت الشيخ الحصري قد جمع هذه الصفات الثلاث ، مع زيادة فيه ، هي مَسْحة الجلال والوقار اللذين يلقيهما في السمع وفي النفس ، وهو في هذا مختلف عن الجلال والوقار في صوت الشيخ المنشاوي - عليه رحمة الله -
مثلاً ؛ لأن هاتين الصفتين في صوت الشيخ المنشاوي مأتاهما من قوة الصوت ، وبُعْد قراره ، ومن تحزيزات فيه ، وغلظ محبَّب محمود ، ولهذه الخصيصة مثال أوضح في صوت الشيخ سيد النقشبندي المنشد المعروف ، وفي صوت الشيخ محمود عبد الحكم .
وأما في صوت الشيخ الحصري فالجلال والوقار صفتان في طبيعة الصوت ومادته وبصمته ؛ لأنك تشعر بهذا الجلال والوقار في صوت الشيخ الحصري وهو صغير في السن ، وصوته نحيلٌ حادٌّ ، كما تشعر به بعد أن علت سنه ، وصوته غليظ ممتلئ .
فإذا ما نظرنا إلى الفن الإبداعي في تلاوة الشيخ الحصري فسنجد أن له خصائص :
• الدقة الأدائية :
فهو أوَّلاً يقدم الدقة الأدائية في حقيقة الصوت ( أي الحرف بمعنى ما ) ، وصفته ، ومقدار زمنه ، على كل مقتضيات الفن الإبداعي .
وكل القراء المتقنين يفعلون ذلك ، ولا يقع الإخلال بأحكام القراءة إلا على سبيل الندور في الحفلات ، فيُتجاوز عن إطالة مَدَّة أو نحوها لتكميل بناء الجملة اللحنية استجابة للتفاعل مع جمهور " السمّيعة " .
أما الشيخ الحصري - رحمه الله - فما كان في ظني يتهاون في ذلك في حال من الأحوال .
والتزام القارئ بمعايير التجويد القرآني يزيده عبئًا ، ويقيِّده بقيد ثقيل ، ويحصره في مجال ذي حدود ، فلا يبدع في التغني القرآني إلا أصحاب الموهبة الصوتية أولاً ، والدُّرْبة المتمرسة ثانيًا ، والنفَس الطويل ثالثًا ؛ لأن وقفاته وابتداءاته مضبوطة بقوانين ، فإذا قيَّد نفسه بقراءة غير التي نشأ عليها وحفظها في الصغر ، كان هذا قيدًا آخر ، وشيئًا يشبه لزوم ما لا يلزم في الفن القولي الشعري والنثري .
وبذلك يكون القراء في ذروة الخبرة في التغني الشرقي ، ولا غرو أن حكوا أن بعض الملحنين كان يستشير بعض المشايخ في خيارات إقفال بعض الجمل اللحنية ، وأن كان بعض كبار الموسيقيين بدؤوا حياتهم قراء للقرآن الكريم ، وما خبر سيد درويش ثم سيد مكاوي ببعيد .
• الصنعة الخفيفة :
ثم إن الشيخ الحصري لا يقصد إلى التفنن والتنويع قصدًا ، ولكنه يترك ذلك للأحوال ، فيقرأ بما يؤديه إليه الموقف المؤلَّف من زمان ومكان وحالة نفسية وآيات مقروءة ، فيطرِّب بما يشعر به حينَها بلا إعداد أو تهيئة أو تخطيط سابق ، ولكن يقرأ بسجيته وطبعه ، فيقرأ بما سميته في بعض ما كتبت قديمًا : " الصنعة الخفيفة " ، وهي لا شك معتمدة على طبع جيد .
والفن الأصيل هو ما يغلب فيه الطبعُ الصنعةَ ، وكلاهما لا بد منه ، ولكن غلبة الصنعة تؤدي إلى التكلُّف ، والتكلُّف مذموم ؛ لأنه يضاد السهولة واليسر ، ولا تفلح الصنعة في كل حين ، ولا تُعجب في كل حال .
وهذا يؤدي إلى انطباع الفن الإبداعي بجمل لحنية قليلة ، وقَفَلات معروفة معتادة ، ومقامات مطروقة ، وهذا لا يعيب القارئ خصوصًا ؛ لأن فن التغني في عمله ما هو إلا وسيلة إلى إيصال أحسن الحديث ، وأشرف الكلام ، إلى الأسماع ، فجلال مادة فنه - وهو القرآن الكريم - تُغنيه عن التوسع في التنويعات اللحنية .
ولهذا كان أكابر القراء معروفين بجمل ومقامات وقفَلات طبعت تلاوتهم ، كالشيخ رفعت والشيخ المنشاوي والشيخ البنا والشيخ الطبلاوي والشيخ عبد الباسط في آخر أمره ، لما استقرَّ فنُّه ، وعُرف قدرُ صوته ، وسجَّل خَتَماتِه ، وأما في أول أمره فكان متفنِّنًا في الحفلات أيما تفنُّن .
وقد خرج عن هذا الوصف الشيخ مصطفى إسماعيل ، فكان من أسلوبه في الإبداع غزارة الألوان وتنوعها إلى حد المفاجأة ، وهذا عوَّض ما في صوته من حشرجة وشيخوخة واضحتين ، فكان بحق ممسكًا بزمام التغني يصرِّفه كيف يشاء .
• قلة التغيير :
ومن خصائص فن الشيخ الحصري في التغني : قلة التغيير ، حتى إنه ربما قرأ في النوبة الواحدة بمقام واحد ، وبطبقة واحدة ، بما تحتمله بطبيعة الحال من تنويعات وقفلات ، وإذا وصل إلى طبقة الاستقرار لا ينزل منها إلى القرار غالبًا إلا في الختم ، إذ يرجع إلى المقام والطبقة اللتين بدأ بهما ، لا كما يفعله كثير من القراء بالاستراحة ، وإمرار بعض الجمل والآيات بصوت خفيض في طبقة القرار .
وله رأي أيضًا في عدم جواز القراءة بأكثر من رواية في الجلسة الواحدة .
فهو مُفْرِدٌ روايةً ومقامًا وطبقةً .
ولا تظن أن هذا معيب ، بل هو فيما أظن وما أتذوق مفيد معين على التدبُّر ، بل على بيان وحدة الكلام المتلو ، وعلى تبيُّن الخيط الرابط لأجزائه ، وعلى البقاء في الوجد نفسه ، وفي الحالة النفسية نفسها ، خاصة إذا كانت النغمة ممتعة ومرضية ، فهي تعمل عمل الإلحاح في التحزين بنمط واحد .
ولذلك تجد أغاني الرثاء والحزن في المآتم تمشي على نمط واحد ، بل أزعم أن التراث الشعبي لكثير من الشعوب فيما أظن يسير فيه العمل الواحد على نمط واحد من أوله إلى آخره .
• ألحان السماء :
قرأت ما كتبه محمود السعدني عن الشيخ الحصري في كتابه : " ألحان السماء " ، فلم يعجبني ، قال : " لم يكن في الطبقة الأولى بين القراء ... حجة في القراءات الصحيحة ، ولا يزيد !
والفرق بين مصطفى إسماعيل ومحمود الحصري هو ذاته الفرق بين الأديب نجيب محفوظ وأستاذ الأدب في الجامعة ... فالأول فنان ، والثاني مدرس ، ومن السهل إنتاج ألف أستاذ ، ولكن من العسير خلق فنان واحد " ( ص 83 ) .
والكتاب كله ليس جادًّا ، وهو ذكريات وأخبار و" دردشة " صحفية ، وفيه أشياء لا تلائم مقام القراءة ومقام المقروء .
على أن هذا الرأي يُفهم كلَّ الفهم من رجل لا خبرة له بعلوم العربية وعلوم القرآن الكريم ، فهو يبحث عن الفن الإبداعي في ذروته فحسب ، ولا يهتم اهتمامًا كبيرًا بفصاحة الحروف ، ودقة الأداء ، ولا يستطيع تقدير قيمة مؤالفة هذا للصوت الحسن ، والفن الإبداعي في لون من ألوانه .
• تسجيلات الشيخ الحصري :
سُمِّي الشيخ الحصري شيخًا لعموم المقارئ المصرية خلَفًا لشيخه الشيخ علي الضباع - رحمة الله عليه - سنة 1960 ( فيما ذكر في ترجمته لنفسه بصوته ، وله ترجمة في تتمة الأعلام 2/244 ، وفي إتمام الأعلام ص 426 ) ، ومن مشايخه أيضًا الشيخ عبد الفتاح القاضي ، وله مؤلفات في علوم القرآن الكريم ، وهو أول من سجل القرآن الكريم ختمة كاملة .
ومن تسجيلاته الكاملة للقرآن الكريم ( وهي متاحة متداولة إلا ما سنذكر ) :
1- ختمة برواية حفص عن عاصم ، بقصر المد المنفصل ، وهي أول ما سجل ، سجلها سنة 1961 .
2- ختمة برواية ورش عن نافع ، سنة 1964 .
3- ختمة برواية قالون عن نافع ، سنة 1968 .
4- ختمة برواية الدوري عن أبي عمرو .
5- ختمة برواية قُنْبُل عن ابن كثير ( حدثني أنه سمعها منذ نحو عشر سنوات كاملة من إذاعة القرآن الكريم المصرية : أخي الشيخ عبد الله الفاخري ، وهو خبير في التسجيلات القرآنية المصرية ، خاصة تسجيلات الحصري ، ثم وقفوا إذاعتها ، ولما سألهم عنها في مهاتفة نفوا أن تكون عندهم ، ولعلنا نحصل على قطعة منها فننشرها ) .
6- ختمة التعليم ، برواية حفص ، وهي بمرتبة التحقيق ، بلا ترنم ، ويقف برهة بمقدار ما يقرأ السامع .
7- ختمة برواية حفص ، بتوسيط المد المنفصل .
8- ختمة مجودة برواية حفص ، بقصر المد المنفصل .
9- ختمة مجودة برواية حفص ، بتوسيط المد المنفصل ، وتوسيط العارض للسكون.
وهذه الأخيرة أعدُّها أعلى ما سجل الشيخ الحصري من ناحية الروح ، والفن الإبداعي ، وهي متجانسة متشابهة من أولها إلى آخرها ، تسري فيها روح واحدة ، كأنه سجلها في يوم واحد ، وهذا يدل على أنه سجلها في مدة قصيرة .
ليس فيها فتور في الجهد ، ولا اختلاف في الجودة ، وفيها وَجْدٌ وانفعال وتحزين لم أتذوقه في شيء مما سجل الشيخ الحصري - عليه رحمة الله - وفيها وقَفَات مبتكرة .
وأظنها من أواخر ما سجل ، إن لم تكن آخر ما سجل من الختمات الكاملة .
وهذه الختمة - وا أسفا - غير متاحة كاملة للناس ، ولكن تذيع منها إذاعة القرآن الكريم المصرية نصف حزب من أول كل جزء ؛ لأنها تذيع ختمة مؤلفة من تلاوة أربعة من القراء ، والثلاثة الآخرون هم : الشيخ مصطفى إسماعيل ، والشيخ محمود البنا ، والشيخ عبد الباسط ، فتذيع نوبة كل يوم لواحد من هؤلاء ( آخر عهدي بوقت إذاعتها أنه بعد أذان عصر القاهرة ) .
وأظن أن بعض الناس سجلها من الإذاعة على هذا التقسيم ، ونشرها على النت ( تجدها في موقع طريق الإسلام ) .
وتذيعها قناة المجد للقرآن الكريم على هذه الهيئة ، وتضيف إليها نوبتين للشيخ المنشاوي ، وللشيخ الطبلاوي .