على شاطئ سورة الأعراف
الدكتور عثمان قدري مكانسي
ما أروع أن يتناغم المرء مع ما يقرأ من آيات الله ويكتشف أموراً قد اكتشفها الملايين قبله على مرّ الدهور والأعوام، بينما هي وليدة الساعة في لحظاته هو، وأن يتلذذ بما يفهم؟
كنت منذ أن وعيت وبلغت مبلغ الرجال أقرأ كل يوم في صلاتي جزءاً من القرآن ، فإن ضعفت عن الصلاة – وهذا من نقص الإنسان – قرأت ما تبقّى من الجزء بعد صلاة الفجر أو في الضحى . واليوم قرأت سورة الأعراف ، وما أكثر ما قرأتها في مسيرة الحياة . ووقعتُ على معاني جليلة سبقني – كما ذكرت آنفاً – غيري إليها إلا أن الإنسان يجد - وهو يقرأ - شيئاً جديداً في هذا الكتاب العظيم الذي لا تنقضي عجائبه فتقوى صلته به ويتعلق به. وهذا من فضل الله تعالى على عباده ليظلوا مواكبين القرآن تلاوة ودرساً وفهماً.ثم إيماناً به وعملاً بتعاليمه.
شد انتباهي اليوم هذا التطابق الرائع في أقوال الأنبياء ، حتى إنك لتجد الكلام نفسه تقريباً بالحروف نفسها أو بالمعاني ، فدعوة الأنبياء واحدة منذ أن بُعث أول نبي منهم إلى بني البشر ، ونفوس الناس وعقولهم تكاد تتكرر بين مؤمن وكافر.
إنك تجد القرآن يقول في نوح عليه السلام :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)}.
وترى هوداً عليه السلام يقول : {.. يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)}،
ثم تجد صالحاً عليه السلام يتلو عليهم الكلام نفسه حين يخاطبهم:
{ .. قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ ..(73) } ،
وهذا شعيب عليه السلام يذكر المقولة نفسها { .. قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ .. (85)} ، إنها الجملة الخالدة :
{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ }
فما خلق الله تعالى مخلوقاته إلا ليعبدوه : { وما خلقت الجنّ والإنسَ إلا ليعبدونِ (56)} (الذاريات).
ونجد قوم نوح يصفونه صراحة بالضلال ، قال تعالى : { قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)} ،
ثم نجد قوم هود يصفون نبيهم صراحة بالسفاهة والكذب ، قال سبحانه : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)} ، فرد كل منهما على قومه بنفي الكلمة نفسها ، فقال نوح : { قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)} وقال هود : { قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)} ، فأكدا نبوّتهما وأنهما رسولان كريمان.
ونجد قوم لوط يصرحون بعداوته ويعملون لإخراجه من البلدة ، قال عز وجل : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)}.
فلما صرح قوم نوح وقوم هود بالتضليل والتسفيه كان التصريح بالنصر بكلمة النجاة ( فأنجينا ) في قوله تعالى عن نوح :{ .. فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ..} وفي قوله عن هود : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا }.
ولما صرح قوم لوط بإخراجه ومعاقبته صرح القرآن بكلمة ( أنجينا ) في قوله تعالى:
{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)}.
ثم نجد التصريح بطريقة هلاك قوم نوح مع التعليل :{ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)} أغرقهم ،فقد كانوا عمياناً عن الحق ، واستعمل جمع المذكر السالم الدال على كثرة العماية { عَمِينَ } . وكذلك صرح بهلاك قوم هود مع التعليل بقوله تعالى :
{ وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)} ، قطع نسلهم وأفناهم لكفرهم وعدم إيمانهم.
وكذلك نجد التصريح بهلاك قوم لوط مع التعليل : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)} ، فهم مجرمون.
ولم يكن تصريح بالكلمة المحددة لتكذيب صالح كما ورد من ( ضلالة وسفاهة ) في الحديث عن نوح وهود ، فقوم صالح لا يحبون الناصحين ، فحكم بإهلاكهم بقوله تعالى :{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} وبنجاته بكلمة { فَتَوَلَّىٰ } ولا يكون التولي إلا للإيذان بإهلاكهم ، قال تعالى : { فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}.
أما في قصة شعيب عليه السلام فكان جدال كبير بينه وبين قومه فهم يطففون الميزان ويأكلون حقوق الناس ويصدون عن سبيل الله ويهددون النبي ومن آمن به بالطرد إذا لم يرتدوا عن الدين القويم،فذكر القرآن هلاكهم صراحة : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)} ، ولكنه ذكر كلمة (التولي) إيذاناً بنجاة شعيب عليه السلام غير آسف عليهم .
والجميل بعد ذلك إيراد الحكمة من سرد قصص الانبياء في هذا المقطع من سورة الأعراف الغني بالعبر والعظات: إن إيمان الناس بربهم وطاعته يفتح عليهم الخير العميم ارضاً وسماءً وهذا غاية ما يوده المرء العاقل ، قال سبحانه : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } ، أما العصيان والتكذيب فيورثان العذاب الأليم جزاء وفاقاً قال عز من قائل :
{ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)}.
ولن يأمن الكافرون العاصون العقوبة ، وستفجؤهم في أية لحظة من لحظات غفلتهم حيث لا ينفع الندم. قال تعالى :
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}.
إن الغافل اللاهي عن عبادة الله وطاعته والمجاهر بعداوته للخالق عز وجل – حين تقع العقوبة دون إنذار – يخسر كل شيء ، وما أسوأ أن يخسر المرء نفسه التي بين جنبيه بفساده وكفره قال سبحانه :
{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}،
ويالها من خسارة أبدية ، نسأل الله العافية.