ترمق الرمس بعينيها الذابلتين من البكاء وضرب السنين المتواصل عليهما، كان رأسها قد مال على كتفها من الإعياء والتعب، فبدت كمن ينتظر الخلاص بالموت.
توزع نظرها المعشي في أنحاء المقبرة العظيمة، حتى هي طالها التغيير بسبب الحرب، فكلِّ شيء في الوجود يخضع لقانون التغير، إذ أنت لا تنزل النهر عينه مرتين، حكمة لفيلسوف يوناني رأت مصداقها كثيرا في هذا البلد، حكمة كانت قد سمعتها من زوجها الذي فقدته في حرب طويلة لا ناقة لهم فيها ولا جمل مع جارة فتية نفضت تراب الظلم عنها توا فاستقبلها الجيران بما استقبل الفيريسيون مريم التي جاءت تحمل بشارة عمران فأنكروها كأنهم لم ينتظروها طويلا.
تنهدت وهي تقول بصوت هامس متعب:-
إنها أوَّل ما يطوله التغيير هذه المقابر.
ترمقه من جديد، هي لم تفارقه منذ أن حلَّ فيه، كيف تفعل؟! وهو لم يفارقها إلا في ذلك اليوم المشؤوم.
ثمرة لزواج لم يدم سوى أشهر قصيرة انتهى بمقتل الزوج في المعارك الأخيرة قبل أن يوقف إطلاق النار بين البلدين الجارين المتعبين ...ثمرة وتر كانت بالنسبة إليها تعدل ألف بستان وبستان...ثمرة عزمت على أن تجعلها شجرة باسقة وارفة الظلال دانية القطوف...
كانت الأيام والشهور والسنون تمضي وهي تنتظر أن يحين وقت القطاف فتحصد ما زرعت؛ فجاء سريعاً...ولكنه حينما جاء سبقتها يدُ الحجاج لتسرق كدَّ العمر كلَّه بضربة سياف مجهول حاقد.
يعود بها فكرها المتعب الكاسف إلى ذلك اليوم الذي جاء فيه أخوها باكيا ليقول:-
وجدناه في الطب العدلي..
نهضت ولكنها لم تستطع الانتصاب على طولها فسقطت لتتلقاها أيدي الأهل... لم تكن هي من سقطت على الأرض، بل كانت أحلامها وآمالها هي التي تهاوت وتهشمت كزجاجة سقطت من علٍ فلم تجد من يتلقاها سوى الأرض الصلدة القاسية لتجعل منها ذرات يستحيل جمعها من جديد.
لم يدعوها تذهب للتعرف عليه فالعينة المأخوذة منها هي التي تعرفت عليه وبدقة متناهية!!.
وفي المغتسل تشبثت بعروة الباب وهي تصرخ طالبة أن تراه للمرة الأخيرة. قال لها أخوها باكياً وهو يسمك بها بقوة:-
لا تستطيعين.
فردت صارخة:-
لم؟! إنه ابني الوحيد...للمرة الأخيرة أقبل شفاهه وعينيه.
وبكى وبكى معه كل من حوله..فصرخت بهم كأنها مجنون:-
أريد أن أراه ..أريد أن أقبله ..ألا تفهمون؟!..أيها القساة!!.
وحاولت الفرار من يديه فصرخ بها وهو يجهش قائلا كلمات لم تعيها أول ما طرقت أسماعها:-
أيُّ شيءٍ تقبلين؟! إنه بلا رأس.
رأس؟!..وما هو هذا الشيء الذي أسماه رأس؟! ومن هو هذا الذي بات من دونه؟!، ولم؟!..كانت كمن سقط في ليلة حالكة في حفرة مظلمة عميقة ويريد أن يستوعب النظر في الظلمة ليستطيع التعرف على الأشياء قبل أن تلتهمه الظلمة المجهولة المحتوى.
كيف تعرفوا عليه إذن وهم لم يسمحوا لها برؤيته والتعرف عليه، وهي الأم العارفة بكل شبر في جسده منذ أن ولدته؟! ومن قام بهذه المهمة عنها؟!، لا أحد غيرها يعرفه وليس من حقِّ أحدٍ القيام بهذه المهمة بدلا منها.
أخبروها بأنهم تعرفوا عليه من خلال الـ(دي أن أي) فزادت الحلكة في عينيها والتشويش في عقلها المتعب أصلا..ما هو هذا الشيء؟! وكيف يعرف ولدها مثلها؟ كيف تراه سلبها هذه الخصوصية التي تملكها كل أمٍّ في الوجود؟!. وتساءلت أتراه يعرف موضع الشامة في مفرقه؟ ورمز وحامها تحت إبطه؟ والجرح في راحته الذي خلفه المسمار المغروس في الأرض بعد أن سقط فوقه وهو يلهو يوم كان في العامين من عمره؟!...و...و..كل هذه الأسئلة داهمتها في تلك اللحظة، فضلا عن شعور غريب نحو هذا المجهول الغاصب لحقها كأنه سكين تغرز في قلبها وتخرج بشكل متواصل، ربما هي الغيرة التي تجعل بعض الأمهات تغار من كنتها حينما ترى أنها استحوذت على قلب ولدها والغريب أنَّ هذا الشيء ليس امرأة حتى ترضى بأن يسلبها حق التعرف على ولدها؟! ألم تكن الأمهات في السابق هن من يذهبن للتعرف على جثث الأبناء دون غيرهن؟! ألم يسمع الجميع بتلك المرأة التي رفضت الجثة التي سلمت على أنها لولدها في الحرب ورضيت دونها بعظام بالية لأن قلبها ارتجف وحنَّ لتلك العظام دون غيرها؟!.. لم هي إذن تشارك بحقها هذا، بل تُسلبه كلياً؟!.
ترمقه كرة أخرى وتنعم النظر فيه، كانت تتمنى أن تغلب أمانيها واقعها فيكون صاحب الرمس غريباً عنها، كيف لا؟!!..وهي لم تعرفه من قبل..نعم لم تعرفه.. فهي لم تره سوى مرة واحدة كان فيها جثة بلا رأس طبعت فيها لاشعورياً قبلة من شفاه مضطربة وقلب ممتلئ بأخلاط من المشاعر على أوداج متعفنة يابسة لكثرة ما شخبت من الدماء..
نعم هي لم تلده.. ولن.. فهي لم تعرفه سوى في ذلك اليوم المشؤوم الذي تقاسمت فيه مع كائن مجهول كل خصوصية الأم، فكانت قسمة ضيزى لا عدل فيها.