هناك أناس يمرّون في حياتنا فيتركون في داخلنا ذكريات تُحفر في صفحة الروح، كالوشم لا تمّحى، فتشدّنا الذكرى الى عالم يزدحم بالصور والأصوات، ضحكات انطلقت، بسمات انبعثت، أفراح لامست شغاف القلب، وتمرّ في الذهن مواقف ومشاهد لنا معهم كلقطات سريعة من دعاية لفيلم سينمائي، نحلّق معها بعيدا لنعانق لحظات من الفرح والسرور والشوق لأيام حلوة مضت، ولكنها لا تُنسى. كانت صديقتي هناء واحدة من هؤلاء.
تعرّفت عليها في أول أيام التدريب في التعليم في المدرسة الثانوية في قرية دالية الكرمل* القريبة من جامعة حيفا التي درست فيها. وقفَت هناك في الرواق القريب من غرفة المعلمين، تتحرّك في مكانها يمينا وشمالا بفارغ الصبر، وتنتظر. كانت فتاة متوسطة الطول، جسمها ممتلئ بعض الشيء، وشعرها أسود مربوط بغير عناية من وراء رأسها. وحين لمحتني مقتربة، نظرت اليّ بعينيها البنّيتين، اللامعتين، وفتحنا بالحديث بحكم تواجدنا نحن الإثنتين بنفس المكان والحالة، فاكتشفت أنها ستتدرّب عند نفس الأستاذ، وفوجئت أننا ندرس نفس الموضوع في الجامعة ولكن بفارق سنة واحدة، ورغم ذلك، لم نلتقِ من قبل.
ولكن، بعد ذلك اليوم، التقينا كثيرا في محاضراتنا المشتركة وفي أيام التدريب في المدرسة. فنشأت صداقة جميلة بيننا بسرعة كبيرة، وخلال وقت قصير، اكتشفت أن صديقتي الجديدة هناء هي إنسانة من طراز خاص. كان لها معارف كُثر جدا، وكأنها تعرف كل الجامعة بطلابها وطالباتها، محاضريها ومحاضراتها، وكانت تبادل الجميع التحايا، تبعث لهم الإبتسامات وتطلق نحوهم الضحكات خلال سيرنا معا في رحاب الجامعة، ولسانها لا يكفّ عن الكلام. كانت فتاة مميّزة تفيض سحرا أخّاذا، تزخر بحيوية دافقة، طموحة وملتزمة في دراستها الى حد كبير، حتى نالت ثقتي واحترامي وأثارت إعجابي بشخصها. أحببت مرافقتها وصداقتها، وكان لدي شعور باطنيّ أن علاقتنا ستتطوّر مع الأيام وتصبح أكثر جمالا.
وكنا أيام الأربعاء نتعلم صباحا في قاعتين متجاورتين ونلتقي خلال الإستراحة، فنذهب لشراء شيء ما للأكل أو للشرب، نتجاذب أطراف الحديث ونقضي وقتا ممتعا. وبعد انتهاء محاضرتينا نذهب معا الى البناية الرئيسية. وبعد مدة قصيرة، باتت محاضرتي تتأخّر عن محاضرتها بربع ساعة. رأيتها في المرة الأولى بعد انتهاء محاضرتها، من وراء فتحة الباب تشير اليّ بيدها للتحية، ابتسامتها الحلوة ترفرف على شفتيها، وتسألني: متى تنتهي المحاضرة؟ فأشرت لها بيدي أن تنتظرني، ففعلت. وبعد انتهاء المحاضرة، شرحت لها في طريقنا أن محاضرتي تبدأ بعد محاضرتها بربع ساعة، لذا فهي تتأخّر.
في الأسبوع التالي، بعد انتهاء محاضرتي، خرجت من القاعة... فلم أجدها. ذهبت بحثا عنها الى القاعة التي تتعلم فيها فلم أرَ فيها أحدا. كنت قد التقيتها خلال الإستراحة وتبادلنا الحديث. إذن، فهي لم تنتظرني. راودتني الخيبة وتملّكني الحزن دون أن أعرف تماما ما السبب. ولكنني عرفت أنني لو كنت مكانها لانتظرتها، كما فعلت من قبل.
سلكت طريقي نحو البناية الرئيسية وفكّرت بيني وبين نفسي أنني لن أكلّمها إن صادفتها في طريقي. سأتجاهلها كما تجاهلتني. وحين وصلت الى البناية الرئيسية رأيتها واقفة ضمن مجموعة من الطلاب والطالبات، غارقة في الحديث كعادتها. كان المكان يعجّ بالناس ويضجّ بأحاديثهم، صيحاتهم وقهقهاتهم. مررت عليها دون قول شيء، وفي داخلي أرجو ألا تنتبه إليّ، واتّجهت نحو الدرجات المؤدّية الى الطابق العلوي. بعد لحظتين، سمعت صوتها يناديني: "سلمى!"
إلتفتّ نحوها وأشرت لها بالتحية مع ابتسامة كاذبة... ولم أتوقّف.
"كيف كانت محاضرتك؟" سألت.
فأجبتها باقتضاب: "جيدة." وأكملت طريقي.
بعد ذلك اليوم، فكّرت كثيرا بشأن صديقتي الجديدة هناء، وتوصّلت الى نتيجة أنني أحببت هذه الإنسانة الى درجة سيخيب ظني معها كثيرا، وأنها لا تناسبني كي تكون صديقتي على الإطلاق، فهي مختلفة عني كل الإختلاف. إنها كثيرة الكلام، مستعجلة دائما، تعرف كل من في الجامعة، تكثر من التشكّي والتذمّر، وبنفس الوقت هي نشيطة ومتفوّقة في دراستها. وكانت هذه الصفات بعيدة عن أطباعي تماما، حيث كنت إنسانة هادئة، رائقة، وفتاة عادية لا تجذب الأنظار. قرّرت الإبتعاد عنها قدر الإمكان، فليس من اللزوم أن نكون صديقتين، بل لنكن زميلتين عاديتين.
وفي الأيام التالية، نسيت كل هذا الأمر، ونسيت ما حدث، ووجدت علاقتنا تتطوّر على نحو سريع، غير متوقع. كنا نلتقي كثيرا... خاصة في المكتبة.
في أحد الأيام، كنت جالسة في الطابق العلوي في المكتبة، منكبّة على كتبي وأوراقي، حين فوجئت بصوتها المألوف الذي يرقص فرحا كلّما رأتني. "سلمى!"
قمت من مكاني والفرحة تغمر قلبي، صافحتها، وبقينا هناك نتحدّث عن الدراسة والوظائف، وفي اليوم التالي ذهبنا معا الى يوم التدريب في المدرسة، ثم عادت كل واحدة الى قريتها لقضاء نهاية الأسبوع.
عدت الى الجامعة يوم الأحد ظهرا، واتّخذت طريقي نحو المكتبة. وعندما كنت أمرّ من منطقة الهواتف العامة... رأيتها.
"سلمى!" هتفت نحوي مبتهجة بطريقتها الخاصة التي لا تشبه بها أحدا، وكأنها لم ترَني منذ عام.
إقتربَت مني، عانقتني وقبّلت وجنتَيّ، وأنا أحسست بمحبتي اليها قد سكنت أعماقي وغمرت قلبي، وكنت سعيدة أنها أول شخص أستفتح برؤيته أسبوعي الجديد. توطّدت صداقتنا خلال ذلك الأسبوع. كنا نقضي وقتا طويلا في المكتبة، كل واحدة تنشغل بوظائفها، وعند الظهر نخرج للإستراحة فنتناول الغداء معا في أحد مطاعم الجامعة، ندردش، نضحك ونستمتع بالوقت الذي نقضيه معا. وفي المساء، نعود معا الى مكان إقامتنا في عسفيا*، كلٌّ الى شقتها المستأجرة مع أخريات.
وفي مساء أحد الأيام، إلتقيتها قرب باب البناية الرئيسية حتى نعود معا، وطلبت منها أن ننتظر صديقتي الأخرى التي كنت قد اتّفقت معها للقائها في نفس المكان للعودة معا. إنتظرنا عدة دقائق، ولكنها لم تظهر، وهناء، كما عرفتها، لم ترغب في الإنتظار أكثر من ذلك وصارت تستعجلني كي نعود.
"دعينا ننتظرها قليلا بعد، أرجوك." قلت لها. "لا بد أن تأتي، فقد وعدتني."
"ربما عادت قبلنا، وقد تأخّر الوقت، يا سلمى، وأخشى ألا نجد سيارة أجرة في هذا الليل." إنتظرنا عدة دقائق أخرى، وعندما لم تظهر صديقتي، توجّهنا معا للعودة الى عسفيا. في الخارج كانت العتمة تغطّي الكون، والسحب تغازل ضوء القمر. هبّت ريح باردة من البحر وشقّت طريقها نحونا.
"أحوو، يا لهذا البرد!" قالت هناء وارتعدت أطرافها.
أمسكت بيدها وقلت لها: "تدفئي بي، يا عزيزتي."
فابتسمت لي والسعادة تكسو وجهها، وقالت: "اوهوو، سلمى، هذا العام أنت صديقتي الأقرب الى نفسي. هذه أول مرة تكون لي صديقة مثلك."
"ولكن أصدقاءك في الجامعة كثيرون. دائما تتحدثين اليهم وتضحكين معهم."
"كلهم من الهاي والباي فقط، ليسوا أصدقاء بمعنى الكلمة. ولكن، معك أرتاح كثيرا. أحسّ أنك صديقة حقيقية." قالت. ثم أضافت: " تعلمين؟ أنا أحبك كثيرا."
إلتفتّ إليها وابتسمت لقولها. "وأنا أيضا أحبك، يا هناء، وأعتزّ جدا بصداقتك."
أومض البرق في السماء كأنه ينذر بالمطر. أسرعنا نحو الطريق المنحدر الى المحطة. ثم قالت هناء: "تعالي الى شقتي. نامي عندي الليلة."
فوجئت بطلبها، إذ لم أكن قد نمت عند أي من صديقاتي من الجامعة من قبل. ولكن، بعد تفكير بسيط، وافقت على ذلك بسرور، فاصطحبتني الى شقتها التي كانت خالية من باقي البنات حيث كن قد عدن الى قراهن لقضاء نهاية الأسبوع. أما أنا وهناء فقد كان علينا الذهاب الى يوم التدريب في المدرسة صباح اليوم التالي.
دخلت غرفتها من ورائها، فرأيت دمية أنيقة جالسة على سريرها. قلت: "اوهوو، ما هذه الدمية الجميلة؟!"
"إنها هدية من أمي." قالت لي. "كانت آخر هدية تلقيت منها... قبل رحيلها."
صُدمت بقولها. "وهل ماتت أمك؟"
أومأت برأسها أن نعم. "قبل عامين."
هبط علينا الصمت. رأيتها تأخذ الدمية وتضمّها الى صدرها. لم تقُل شيئا. أغمضَت عينيها، وبدا عليها كأنها غابت وغرقت في الحنين.
وبعد لحظات... سألتها: "كم كان عمرها؟"
"ستين." ردّت وفي صوتها بدت رجفة هزّت قلبي هزّة عنيفة، وترقرقت الدموع في عينيها. ظننت أنها كانت على وشك البكاء. ولكنها قاومت دموعها وأخبرتني أن أمها توفيت من مرض السرطان في سنتها الأولى في الجامعة. وكان ذلك في فترة الإمتحانات، ورغم حزنها واكتئابها فقد استطاعت أن تتخطى تلك الفترة العصيبة من حياتها وتنجح في امتحاناتها بتفوّق، لتهدي نجاحها الى روح أمّها.
أحسست بغصّة في حلقي، وتبلّلت عيناي بالدموع. كانت هذه أول مرة أرى فيها صديقتي هناء بهذه الحالة من الحزن. تزايد احترامي لها وإعجابي بها بعدما عرفت عن مدى حبها لأمها وإصرارها على النجاح وتحقيق طموحها. وبعد ذلك اليوم، باتت تذكر أمها في حديثها، فأحسّ في نبرتها بشوقها المتدفّق من داخلها، وتلك الرجفة تهزّ قلبي كل مرة من جديد.
وذات يوم، بينما كنا جالستين على العشب الأخضر الذي يحيط بالجامعة، نطلّ على منظر حيفا الرائع الجمال، أخبرتني عن العريس الذي تقدّم لخطبتها في نهاية الأسبوع. وقالت إنها في العادة لا تخرج الى العرسان الذين يتقدّمون لخطبتها، ولكن ذلك الرجل كان ذا مكانة خاصة وله احترامه بحيث طلب منها والدها أن تخرج.
"جلست معهم،" قالت. "وعيناي محمرّتان من الحزن. فسألتني أمه: ما بك؟ هل أنت بخير؟ قلت: بخير، ولكنني أفتقد أمي في هذه اللحظة أكثر من أي وقت مضى. أردت أن تكون معي الآن وتدلّني كيف أتصرف في هذه اللحظات."
ومرّت الأيام، وانتهت أيام الجامعة والدراسة. وعادت كل منا الى قريتها، ولم نلتقِ بعد ذلك على الإطلاق. ولكن الذكريات بقيت تجمعني بها بالمحبة ذاتها، وكلما خطرت على بالي ذكراها رنّ في أذني صوتها المبتهج وهي تنادي باسمي، تنثال في ذاكرتي صور كثيرة من تلك الأيام الجميلة، البريئة، السعيدة، فتنتشي روحي تماما كما في تلك الأيام.
* دالية الكرمل- قرية عربية في شمال فلسطين تقع الى الجنوب الشرقي من مدينة حيفا على قمة جبل الكرمل.
* عسفيا- قرية عربية في شمال فلسطين، تقع الى الجنوب الشرقي من مدينة حيفا، وهي الأقرب الى جامعة حيفا، ويقيم فيها العديد من الطلاب العرب في فترة دراستهم.