فى إحدى العيادات جلست أمامى سيدة من السيدات المتأنقات، يبدو أنها فى منتصف عمرها، على قدر كبير من الجاذبية والهيبة، وما تتمتع به الارستقراطيات من اعتزاز بالذات.... شعرت بعدم الارتياح والطمأنينة؛ لنظراتها المتفحصة اللعينة؛ من خلف نظارتها الثمينة....
مددت نظرى نحوها فانتابنى شعور مبهم غريب، وإحساس بقلق مريب بعد أن لمحتها ترمقنى بشدة؛ بنظرات متجهمة وحادة؛ فأدركنى التأهب والانفعال، حال وصول رسالتها البصرية التى خصتنى بها، وحاولت جاهدة فك شفراتها، فلم أخالها إلا نظرات سخرية واستعلاء؛ فحدثتنى نفسى بما جاء من رد للصاع بصاعين؛ فأين هى من هذا التحدى الذى فرضته نظراتها القاسية علىّ ؟!!
تأملت وتألمت، شعرت بالضيق الشديد؛ عندما رأيت إصرارها العجيب على استنفارى واستفزازى بنظراتها؛ الموجهة من قاعدة كبرها وغرورها ...
أمرتنى نفسى بالقيام برد العدوان على نحو حاسم وتام؛ إلا أن صوت الممرضة أوقفنى عن التحرك إلى الأمام وهى تدعوها للدخول:
ـ تفضلى يا مدام
قامت من مقعدها، مادة يدها لليد التى سعت لترافقها، والكتف التى استندت عليها؛ أدركت حينئذ أن الدهر قد سلبها بصرها
وعندها حدثت نفسى حديث عتاب؛ على ما دفعتنى له من نكد وعذاب وتخيلات عدوانية، دون أسباب واقعية
فقد أتقن عنكبوت الوسواس ـ الذى يعكر صفو حياة الناس ـ نسج خيوطه وبناء بيته الواهن؛ بعيدا عن أرض الواقع الراهن، وألبس الخيال الثوب الزائف، الذى رفل فيه، دون أن يعيه، أو يدرك معانيه العنكبوتية، فوقع فيه دون حيطة وروية تارة بعد تارة؛ وتلك هى حقيقة النفس المغرورة الأمارة .