"بسم الله، توكلنا على الله"، يمتطي دراجته النارية مودعاً زوجته العمياء في هذا الصباح البيضاوي قاصداً الزحام، المحطة اليوم ستكون ساحة الحمام. تُغلق الزوجة البابَ بالمفتاح، على الرغم من فقدان بصرها فقد أصبح تعاملها مع الأشكال والأدوات والأبواب ذي جدوى أكبر، فرؤية الأشياء باللمس والحس تفوق رؤيتها بالعين، إنها كسائر النساء أو لعلها أفضل منهن، تطبخ وتكنس وتمسح أيضاً، والأهم أنها ترى زوجها بنور قلبها. لا تُشفق على مهنته بل تعتز بها متباهية بين غريماتها المشفقات من الجارات: زوجي ماسح أحذية، بينما تشعر بتغامزهن وحركات رؤوسهن الدائرية وبضمات شفاههن وتعويجها إلى جنب. العمياء أفهم الناس للغات الحواس، تبتسم لهن فخورة فيزداد حسدهن، هي من تُحضر أدواته وتستقبلها كل عشية لتُسلمها إياه كل صباح، وكأنها عُهدة وهي عليها المؤتمنة. كل ما يحز في نفسها أنها لا تستطيع ممارسة طقوس الغيبة أو «التبركيك»، نعمة أخرى من نعم النساء في المغرب وفي سائر أرجاء المعمور.
ينطلق «سي الراضي» على دراجته النارية الجديدة الفرنسية الصنع أمام مرأى ومسمع الجيران الذين يُلاحقونه بأعينهم بينما ينبح كلب من كلاب الشارع: "هاو هاو"، حتى الكلاب تعرف كيف تودع أحياناً بينما يخالها مسيئو الظن بلغاتها غاضبة تسعى لعضهم أو إلحاق الأذى بهم..!
انطلق متحدياً الريح على دراجته، يمخر عباب الطرق والناس وهو يفكر: كل الأفعال لا تحصر الزمن، ذاك الآخذ أكثر مما يُعطي، المانح ليأخذ، من ذا يوقفه، أي (إكسير) يُشفي ساديته، أية علة تسم ترياقه، أية مرايا تُحاكي لغته، أي كتاب يفك لسانه؟ كل الأعمال تيه في غيطان الأرض، تلك التي قيل إنها كوكب يعيش الناس فيه ولو مكرهين، منهم من صار طبيباً يُداوي مرضاه وجرحاه، ومنهم من بات شاعراً يجبر كسرى القلوب ويُغذي أحلام الظامئين للحياة في غيره. هو العمل يُنسيهم أنهم فوقه، ذاك الكوكب الخاضع لمفك الزمن، إلا هو ماسح الأحذية "سي الراضي" الذي اختار المهنة الأقرب إلى الأرض. وجه شاحب يُشبه وجه الموت، فرائحة الموتى تهرب من القبور لتنتشر فوق كل بقاع الأرض، تُداعب الأنوف والمسام الحية ساخرة: أيها الراكضون ستنضم أرواحكم يوماً إلى قوافل هذا الأوكسجين الثمل برائحة الموت.
هناك في الحي القصديري الذي تركه خلف ظهره، أو كما يحلو للحكومة تسميته بـ "الحي العشوائي"، يملك بيتاً أو سقفاً قصديرياً وجدراناً حجرية وصحناً لالتقاط القنوات العالمية كما باقي الجيران، ولعله يموت هناك أيضاً قبل الحصول على سكن لائق في تلك الأحياء الاقتصادية أو العلب السكنية الموشومة بوصمة الفقر. هناك أمام الأبواب توجد العذارى ـ والله أعلم ـ خديجة وفاطنة وحرودة وبعض الأسماء الجميلة أيضاً مثل نسيمة ورُبى وسُهاد، يُنظفن ثياب عوائلهن في الخارج، ويُبدين ما قدرن عليه من زينة وقد وضعن الجفنة بين أفخاذهن لعلهن
يُثرن رغبة عابر جامحة قد ينتشلهن من هذا القبر بغية الزواج أو مآرب أخرى، وهناك أيضا طالبات يذهبن إلى جنان الجامعات لعلهن يبنين بيوتاً غير هذه بما يجنينه بالعلم والمعرفة، وهناك شباب دفعتهم الفاقة إلى احتراف تنظيف جيوب موظفي الحكومة وعاملي الشركات الذين يكدون ليلاً ونهاراً لأجل لقمة العيش ولا فرق بينهما سوى كلمة "الحمد الله"، وهناك أيضاً من يتجرع الدمع ويحلم بتحقيق الحلم على أرض الاستحالة، وهناك أيضاً من يقطعون البحر نحو الضفة الأخرى ليعودوا يوما وقد سلبتهم ديار الغربة أيام عمرهم وكثير منهم يبتلعهم البحر والمحيط ولا يعودون.
عادت فتيحة العمياء، كما يحلو للجيران تلقيبها، إلى داخل البيت وقد ذرفت دمعة حب على فراق زوجها لعشر ساعات أخر من العمر، دخلت البيت الفارغ من الأطفال وهي العاقر نحو المطبخ، تتحسس الأواني باحثة عن قصعة فخارية، ستُعد وجبة "الكسكس" وإن كان اليوم خميساً، لا تعلم ما فائدة طبخه أيام الجمعة في بعض البيوت، لعل الفقهاء في عصر من العصور جعلوه مستحباً فيها دونها من الأيام. أخرجت الخضار والقرع والطماطم وأشياء أخرى مبهمة واللحم من الثلاجة، شممت رائحة القزبر والمعدونس، ثم فتحت خزانة المطبخ لتُخرج "الكسكس" والتوابل. صعدت فوق الكرسي لتجلب إليها تلك "البرمة" ـ أو القِدر المغربية العجيبة ـ التي تُشبه امرأة قصيرة حاملاً، سيعود الزوج مساءً بعد يوم مليء بالأحذية والأقدام ليتذوق صنيع يديها. العمياء لا تُضيع الوقت فليس لها ما تراه، إنها تعمل فقط وعيناها مرتاحتان، حتى النوم عندها ليس ملازماً للظلام، فما بالك إذا كانت العمياء امرأة مغربية، إنهن مشهورات بالكد والكدح، ونسبة الكسولات فيهن قليلة.
وصل "سي الراضي" إلى "ساحة الحمام" بعد رحلة جال فيها الدار البيضاء التي لم تعد بيضاء كما كانت بسبب التلوث والاكتظاظ وأشياء دخيلة أخرى، تحسر وهو يتذكرها أيام الطفولة مطفئاً دراجته النارية، أوقفها بالركن حيث يبتسم حارس السيارات ببذلته الزرقاء وطاقيته الحمراء، يبدو أقل تهريجاً وهو يُلوح للسيارات والدراجات بكلتا يديه من رجل الشرطة الواقف في تقاطع الطريق، فهو على حد زعمه يقبض لقاء عرقه أما صاحب الزي الرسمي فيقبض عرق وأنفاس الناس.
ـ صباح الخير السي الراضي، أين أنت يا رجل، لم تظهر أسبوعاً كاملاً!؟
نفس التحية يُلقيها عليه عمَر كل صباح خميس منذ تعارفا ليُظهر وده وشوقه لماسح الأحذية، تجمعهما ساحة الحمام وهديله، وتُفرقهما لقمة الخبز. مسْح الأحذية يتطلب التنقل من مكان لآخر، والناس هنا لا يمسحون أحذيتهم إلا مرة في الشهر إن كانوا من المواظبين على الأناقة.. أما بعضهم فلا يلمعها إلا مرة في السنة!
وحين يهطل المطر الغزير وتنسد المجاري وتتحول الطرق إلى بحيرات "مينيسوتا" العظمى تبدو الأحذية هنا أسماكاً برمائية، وإذا تفتحت خياشيم بعضها سمَّوْها ضاحكة. الشفاه لا تبتسم والأحذية تفعل، تلك التي تُعاني من كثرة المشي بين الإدارات والمصالح العمومية دون حصول فائدة. وأحياناً يُطل من تحت بعض الأحذية لسان وكأنها تشتكي وتريد التحدث إلى هذا العالم الذي لا يفهم فيه البعض سوى لغة الحذاء.
ـ صباح الورد "السي عمر". كنتُ متجولاً كالعادة، الرزق كالسحاب لا يقف في مكان واحد.
ـ قل هو كالأحذية التي لا تكف عن السير على الأرض.
الأقرب إلى الأرض يتحدثون دائماً عن السماء، ومن هم في السماء من طيارين ومضيفات ورجال أعمال لا يتحدثون سوى عن الأرض. ربما للعلة نفسها لا يتحدث هذا الحمام لغتنا. ابتسما لبعضهما ابتسامة ملونة بالحيف، الفقراء يبتسمون لبعضهم، هكذا هُم، قال "السي الراضي" لنفسه، أولئك الأغنياء الذين يمسح أحذيتهم لا يبتسمون، ينظرون عالياً إلى العدم أو إلى خواصرالحسناوات أو إلى هواتفهم وساعاتهم ومواعيدهم، تذكر زوجته فتيحة تلك التي لا تنظر إلى شيء سوى قلبه وكلماته.
رفع بصره وسط الساحة حيث العلم الذي اغبرَّ وشَهُب لونه ومازال يلوح كغبيّ للريح، لعلها الزوبعات ستمحيه يوماً من الوجود، وتلك النجمة الخضراء التي تتوسطه، وكأنها أمل الحرية الذي ستسقيه الدماء يوماً، ما عساها كانت في الماضي، تكثر التفاسير ولا أحد يعلم حقيقتها، لا أحد يعلم شيئاً في هذا الوطن السائر كل يوم دونما وجهة، والأحذية الصامتة فيه تقول كل شيء. ذاك قدر الإنسان ضد الظلم والفقر والموت حيًّا وكل الموبقات التي اختارها والتي لم يخترها.
أحضر "سي الراضي" أدواته وصندوقه وكرسيه الصغير من عِديلَيْ دراجته وتوجه نحو وسط ساحة الحمام، البزاق والهديل في كل مكان، قال في نفسه: هكذا الجمال لا يخلو من عيوب. جلس وسط الساحة قارعاً صندوقه الخشبي مردداً: "عشرة دراهم وسباط جديد". رأسه يقول: هذه المهنة لن تنقرض مادام الناس يملكون أقداماً، ولو قل السير، ولو استبدلوها بالعجلات، والأحذية في غلاء كل يوم.
بخطى واثقة تقدم رجل فارع الطول عريض المنكبين مرتدياً بذلة أنيقة وربطة عنق نحو "السي الراضي":
ـ السلام عليكم السي الراضي.
ـ اليوم تلبس حذاءً بُنياً، لا شك أنك ستُناقش ميزانية الولاية.
ـ لا.
ـ لعلها مغامرة جديدة، الحذاء أول ما يلفت نظر بعض النساء!؟
ـ لا، بل كي يليق بلون البذلة فقط. وأتيت لأصل الرحم معك.
ـ ما زلتُ حياً أُرزق كما ترى.
بدأ "السي الراضي" في مسح الحذاء واضعاً مرهماً تلو الآخر، واحداً لإزالة الغبار وثانياً للتلميع وآخرَ للحفاظ على جلد الحذاء.
مد الرجل يده في جيبه، أخرج منه ورقة مالية زرقاء وأعطاها للسيد الراضي.
ـ أما زلت تدفع نتائج امتحانات الثانوية والجامعة بالتقسيط؟
ـ مدين لك أنا العمر كله، مازلتَ أفضل مني، تمسح أحذية الشعب بكل طبقاته، بينما أمسح أحذية الكبار فقط.
ذهب زميل الدراسة السابق ووالي الدار البيضاء الحالي نحو سيارته الفخمة، مد يده في جيبه مرة ثانية لحارس السيارات الأمّي وانصرف ليُدير شؤون أكبر مدينة في شمال إفريقيا.
في نهاية اليوم الحذائي، لجأ "السي الراضي" إلى بيته القصديري، أغلق بابه، وأكل "كسكس" فتيحة العمياء ثم نام بين أحضانها. التفتت إليه وقد غرق في سُبات عميق، مسحت فوق رأسه بباطن كفيها البضتين: زوجي الغالي، هذه هي السعادة.