لم تكن سناء قبل هذا الوقت حزينة أو متألمة بهذا القدر الرهيب الذي تعاني منه اليوم، وهي تحت وطأة ذلك الشعور القاسي الذي تغلب عليها وملأ كل كيانها... شعور غريب، كالخرافة لا تعلم من أين أتاها... كان أثقل من المرض عليها وأقسى من الموت نفسه! مفاده بأن هناك من يتربص بها أو بزوجتها! فعاشت الصمت والتأمل وغرقت في هواجس شيطانية مريرة؛ فنصحتها زميلتها في العمل وهي تقول لها كصديقة: سوف لن تخسري شيئاً، بل العكس تماماً، ستفوزين بمعرفة سر قلقك وما يخبئه لكِ المستقبل... ثم أردفت متابعة: اسمعي كلامي وخذي بنصيحتي واذهبي إليها وبعدها ستشكرينني وتكافئينني على معروفي هذا! جربي زيارتها فهي ذائعة الصيت في المنطقة الشرقية من بغداد، إنها سيدة كريمة وعليمة وتفقه ما تخبئة القلوب وما يدور في النفوس من نوازع وشعور... إنها قارئة الفنجان.
تزوجت سناء من فرحان( المهندس الزراعي) منذ فترة لم تتجاوز السنة، بعد علاقة حب طاهرة كلفتها سيلاً من الدموع والأرق وأيام من السهد والحيرة...
كان زوجها يتمتع بجمال الشكل وطيبة الأخلاق، فارع الطول، عريض الصدر، واضح الملامح، مهيب الطلعة، يتقدمه شارب قروي غليظ، تنطق عيناه بنظرات يملؤها الوقار والحزم وكأنها تعود لقائد، يحب النظام حد الإدمان، طموح وله هوس في الموسيقى، على الرغم من أنه لا يجيد العزف على أية آله موسيقية، لكنه كان يتمتع بذوق وحس وثقافة موسيقية عالية الجودة، وكأنها تعود لملحن قدير محترف!
تذكرت سناء الأيام التي تلت زواجها والسعادة التي كانت تغطي كل ركن من أركان حياتها حتى غزاها ذلك الشعور مجدداً وهي جالسه في مكتبها بوزارة التربية حيث تعمل، متفكرة بهدوء وعمق في كلام زميلتها... وفي لحظة شاردة خرقت صمتها الذليل، المهين، الذي طال... فقررت بانفعال مكتوم وغيض طائش بعد أن تنفست بعمق وقالت محاورة نفسها: سأذهب لمقابلتها دون تردد ولأموت بعد ذلك فلن أخسر شيئاً ولن أندم... وهذا هو قراري ولن اعدل عنه... لكنها لم تظن في تلك اللحظة الحاسمة عندما قررت فيها زيارتها، بأنها ستنزلق إلى محنة أتعس وأشقى من محنة شعورها ذاك الذي تعاني منه.
بدت سناء وهي على هذا الحال كمن يرمى بالجنون؛ فهمست في سرها مختنقة: أحتاج إلى قدرة خارقة للسيطرة على نفسي الآن فيما يبدو؟! تباً لي على هذه الأفكار المحبطة التي تنتابني والتي تروم حولي وترقص في داخلي رقص العفاريت! ثمَ حزمت أمرها وحقيبتها وغادرت الوزارة على عجل ودون أن تبلغ أحداً، وكأنها سرقت شيئاً وتحاول إخفاءه! وهي تردد مع نفسها: لما كانت المعجزة إذن... وتوجهت إلى المنطقة الشرقية من بغداد التي تقطنها العرافة... تلك السيدة التي لقبت بالعرافة عن جدارة بعد أن فاقت شهرتها أركان محلتها وذاع صيتها في قراءة الفنجان والتنبؤ للمستقبل... حتى بات روادها من كبار الموظفين والتجار الميسورين، وقد كتبت عنها الصحافة مقالات عده تمجد بطولاتها! فأصبحت بمرور الوقت أكثر شهرة من الدينار العراقي نفسه، ليس في اقتنائه بل في صحبته، وبات سعر أتعابها يفوق سعر معاينة أفضل الأطباء علماً وشهرة!!
دخلت منزل العرافة بعد توسلات عديدة بالخادم، وبعد أن نقدته مبلغاً محترماً، سمح لها بالانتظار... لقد كانت صالة الانتظار شبة مظلمة، وكأنها كهف بأضواء باهته؛ جلست على مقعد عريض، مريح الوسادة وغاصت فيه ثم قدم لها الخادم القهوة المرة في فنجان تركي مزخرف الحافة بلونين الأزرق والأبيض، وقال لها قبل أن ينسحب: احتسي القهوة كلها ومن ثم أطلبي ما تتمنين وما جعلكِ من أجله تأتين، ثم اقلبي الفنجان دورة كاملة بدءاً من جهة اليسار واحذري من قلبه بالاتجاه المعاكس وإلا ستحل علينا اللعنة جميعاً... انتظر وقع كلماته عليها ثم تابع مستطرداً: وضعيه على الصحن مقلوباً لينعم بالهدوء والسكينة لتجف رواسب القهوة وستناديك العرافة بنفسها متى فرغت، ثم تركها تعاني الوحدة في خلوتها مجدداً وغادر الغرفة، بصمت كالظل...
قالت والفنجان بين أصابعها يرتجف بارتجاف يدها هامسة تحدث نفسها: يوحى لي بأن الإذعان لمطالبهم في حالتي هذه منج من الكدر الذي أعاني منه! ثم رفعت الفنجان نحو فمها وارتشفت القهوة بنهم غريب وكأن فيها يكمن سر حياتها أو شيطان شفائها! ولم يبق فيه سوى الرواسب... وفعلت ما طلب منها، ثم سلمته إلى الخادم ثانيةً، وبقيت تنتظر بقلب ملتهب، متمرد وبروح منهارة، حائرة وبعقل خاو لا يعلم من أمر صاحبته شيئاً... وامتد فيها الزمن ليصبح دهراً بالنسبة لها وهي تنتظر دخولها إلى العرافة؛ شعرت بالغثيان وتسلل الاكتئاب إليها بطيئاً كعمر الدقائق التي تمر عليها فأخذتها هواجسها بعيداً... فسرحت في خيال كثيف، كالضباب وهي تستعجل اللقاء...
فجأة سمعت من خلف الباب الذي يفصلها عن الغرفة الأخرى( تلك التي تخرج منها روائح عطرة ساحرة): تفضلي بالدخول... جفلت للحظة لدى سماعها صوت امرأة وهي تناديها وتسمح لها بالدخول إليها، لقد شعرت برجفة خفية في جسدها من الرنة التي ذكرتها بصوت صفير الريح... نهضت بتثاقل شديد وكأنها تساق للإعدام، ودخلت متعثرة في خوفها الغرفة التي رأت فيها امرأة لها وجه غامق موسوم بالدهاء والحيلة وعيناها تنطق بنظرات يحتار في تفسيرها كل من يراها، وكأنها لساحرة... متربعة وتتوسط وسادتين كبيرتين على الأرض وأمامها طاولة نظيفة تلمع، فكأنها معروضة للبيع! قصيرة الأقدام، كتلك التي يتناولون المصريون البسطاء عليها طعامهم... زاهدة السطح، إلا من مبخرة كثيفة الدخان، عالية السحب والفنجان الذي احتست منه قهوتها قبل قليل.
أشارت لها العرافة بيد طويلة كقصبة مكنسة، بالجلوس وهي تقصفها بنظرها دون رحمة أو هوادة، مما جعل سناء تنهار تماماً لتلعن في سرها اللحظة التي قررت فيها مقابلتها... ولكن استعادة هدوءها ونشاطها بعد أن سمعت مجدداً نبرة صفير الريح وهي تردد بعطف كاذب: هلا جلست هادئة لتصغين لما سأقوله لك، ثم أردفت بحزم صادق: هناك من يتمنى جلستي هذه ويدفع لقاءها الغالي الذي يملكه... إنك محظوظة في مقابلتي، لا تنسي ذلك أبداً... ثم أدارت الفنجان وهو غارق بين يدها اليمنى... وفجأة قطبت وتغيرت لهجتها من مسالمة وادعة إلى متشنجة مباغته، وصاحت كصراخ قطة دون أن تطرف:
إنك فتاة متزوجة( قالتها وكأنها بقولها هذا استوفت مزاجها)
فقاطعتها سناء بغباء وهي تغمز بعد أن ضحكت على رغمها: هذا واضح من الخاتم الذي في أصبعي.
فرفعت العرافة درجة صوتها، ليخرج الكلام من فمها هادراً كصوت الموج وهي تقول بلا مبالاة لما قالته سناء للتو: إنه يستغفلك ويلعب في مشاعرك ولم يكن يوماً صادقاً معك، ثم غرقت في النظر نحو الفنجان الذي يتمتع بدفيء كف يدها اليمنى.
جف حلق سناء فجأة وغصت بريقها وهي تشهق وصاحت دون وعي وفي تسليم: ماذا تقولين؟! يستغفلني...!!
نعم، يستغفلك( أجابتها العرافة بإصرار وبنبرة ملأتها المرارة المصطنعة) ثم أردفت بحزم: إنه يخونك وأنتِ لا تعلمين!!
ضربها الذهول كالإعصار... فضربت صدرها بيدها بقوة وهي تصرخ باستهانة وجنون: ماذا؟! يخونني...!! لقد توقعت ذلك وحدسي لم يكذب. لقد كانت الرؤيا والشعور بالنفور من الناس والحياة كلها لم يأت عن فراغ... وها أنت تؤكدين ظني ويا ليت كنت خاطئة أو قراءتك لفنجاني ليس صحيحاً... وبدت وهي تتكلم وكأنها تهذي، كالمصاب بالحمى، والدموع كانت قد غزتها بكرم مفرط، ثم استولت عليها ضحكة حادة غير متوقعة كفرقعة السوط في الهواء...
هوني عليك يا بنتي( قالتها العرافة بحنكة توهم المرء الذي يحادثها بأنها صادقة وكأنها أم تحث ابنتها على الصلاح) ثم استطردت بتأثر زائف: انتظار وقوع المصيبة أقسى من المصيبة ذاتها... وأحمدِ الله على إنك عرفت هذا اليوم قبل الغد... كي تقررين ما ستفعلين ثم صمتت وكأن الخرس أصابها فجأة.
ندبت سناء حظها العاثر بغضب وحنق جنوني والشرر يتطاير من عينيها اللتان أثقلتهما الدموع... ثم دمدمت بكلمات لا معنى لها وقالت متسائلة بحزن قاس: هل أنت متأكدة؟! ثم واصلت بنفس الرنة: أقصد هل عنيت حقاً ما تقولين؟! أنه كلام خطير ويمكن له أن يهدم كيان أسرة آمنة! ثم دعت على زوجها بحرارة قائلة: يا رب ليكن جزاؤه من جنس أعماله، أنت السميع البصير، وبكت بمرارة لا تقاس ولا توصف بالكلمات... والعرافة تنظر لها تارة وللفنجان المستقر بين أصابعها تارة أخرى دون أن تنبس.
نقدت سناء العرافة أجرتها المرتفعة وهي شاردة الذهن، متوترة الأعصاب وأطرافها بالكاد تستطيعان حمل جسدها وفرت هاربة، وهي لا تلوي إلا على شيءٌ واحد... ضبط الزوج الخائن... الملاك الذي تحول فجأة إلى شيطان... وهو متلبس بجرمه.
سارت في الشوارع دون وعي، كالحالمة بشقاء مميت ومندفعة بقوة طائشة وبنسيان تام للعواقب؛ وهي تلعن زوجها الخائن في عرفها وعرف العرافة، ثمَ توجهت إلى مكان المشروع الزراعي في المنطقة الغربية من بغداد-حيث يعمل زوجها- وهناك لاحظها زميل زوجها المهندس جعفر وعرفها مباشرة( لأنه سبق له وأن رآها في حفلة زفافها، بعد أن دعاه زميله فرحان عن طيب خاطر) فرحب بها وسألها إن كانت لا تمانع من شرب الشاي معه لحين عودة زوجها من حملته التفتيشية اليومية لمفاصل المشروع الذي يعمل فيه مهندساً.
وافقت دون تردد وهي شاردة الذهن... ثم جلسا متقابلين حول طاولة مستطيلة يعلوها التراب والطين وتظللهما خيمة حمتهم من أشعة الشمس المباشرة... وتحدثا بأشياء كثيرة وخرجا من المكان وهما يقولان في سرهما: ما أجمل الوقت الذي قضيناه وما أقصره!! ثم حضر زوجها وهو يبتسم بصدق لزوجته التي فاجأته بحضورها غير المعلن؛ فسألها مستفسراً: ما الذي أتى بك يا سناء؟! هل هناك مشكلة؟!
كلا، لقد شعرت بالحاجة إلى أن أتنفس هواءً منعشاً خارج الوزارة وقد وجدت هذا المكان هو الأنسب لي! ثم بادرته بسؤال خبيث: ألم تعجبك المفاجأة؟! وتابعت دون أن تتلقى الجواب: من ناحيتي... لقد أعجبني المكان جداً، وحتى زملاؤك... كانوا معي طيبين وكرماء...!
نظر لها فرحان باستغراب من طريقتها في الحديث... وتلهفها من المجيء إلى مكان عمله، وإطرائها الغريب عن زملائه...فقال لها كالمعاتب: لقد أنهيت حملتي المعتادة ويمكننا الذهاب الآن... وأمرها بلطف: هيا... لنخرج من هنا.
لم تر على زوجها أي علامات توحي أو تشير إلى الخيانة! لكنها كانت مقتنعة تماماً بأن زوجها كان يستغفلها ويلعب في مشاعرها... فلم تتراجع ولم تفكر إلا بالرد الحاسم الذي يثأر لكرامتها التي اغتصبت، في حين كانت كلمات زميله جعفر ترن في أذنيها كالطنين وهي تردد: ما أجملك من فتاة، رائعة ورقيقة وتشبهين الفراشة إلى حدٍ بعيد... وقد استقبلت كلماته بعفوية وبرضا لم يتوقعه جعفر أبداً... خاصة بعد أن ضربا موعداً أخر للقاء خارج أسوار أرض المشروع... فانغرست أرجل سناء في وحل الخيانة، فتناست بسرعة عجيبة وكأن ذاكرتها فقدت مزايا كثيرة لا يستهان بها! ما كانت تعاني منه... من ألم وقسوة شعور مزعوم من قبل قارئة الفنجان التي لا تحب إلا الدينار... وهي تحذرها وتندد بخطر وقدر خيانة الزوج لها...
أفاقت سناء فجأة، وكأنها استيقظت للتو من كابوس ملأ عليها حياتها غماً وكمدا( وهي مازالت جالسة تنتظر دورها للمثول بين أيدي قارئة الفنجان) على صوت الخادم وهو يرجوها ويحثها على الدخول...
نظرت له باستغراب، وكأنها تراه لأول مرة! وبقيت ساهية، مترددة لا تقوى على الحركة، خائفة لما قد تؤل لها حياتها من سقوط... لو لم ترجح حكمة العقل ومنطقه.
كرر الخادم توسلاته وهو يدعوها للدخول بقوله:
أستاذة سناء... ست سناء... لقد جاء دورك، أرجوك فهي في انتظارك ولا تجعليها تغضب أو تثور...
رفعت رأسها إلى الخادم وهي في حالة ذعر وذهول وهمست بصوت مخنوق لا يكاد يسمع، وكأنها تحاور الهواء:
كيف سمحت لنفسي أن أحضر إلى هنا؟! تباً لي من امرأة حمقاء، لا عقل لها!! ثمَ تابعت على نفس الوتيرة المتشنجة، النادمة: لقد بالغت في تصور شعوري الذي جعلته مأساة... حتى تهيأ لي بأن هناك من يتربص بي أو بزوجي، آه... أفسدت على نفسي نعمت الحب والحياة، وفرحان يحبني وأنا كذلك... إذن يجب أن استدرك نفسي قبل أن أتمادى أو أنهار... فنظرت حولها بخفة ساحر... ثم اندفعت سريعاً نحو الخارج، كأسير أفلت من أسره! وهي تلهث بحنق وغضب، وقلبها مفعم بالسخط على سفاهتها التي أوصلتها إلى قارئة الفنجان... والخادم يتابعها بنظرات استغراب حائرة... ثم تختفي من أنظاره... دون أن تنظر وراءها، فالزيارة ستكون بعد ثوان... ماضي لا تحب أن يتكرر لها.