عاود تاني بدلت قهوتك؟
خاطبته من بعيد، حين لمحته صدفة يجلس وسط زبائن قلائل متفرقين هنا وهناك، في ذلك الصباح المتقلب المزاج بين غمام وشمس من أحد الآحاد؛ حيث يكون أغلب الناس منشغلين بين مضارب السوق الأسبوعي.
رد وهو يطل برأسه أعلى الجريدة، ويمد لي يده مصافحا بحرارة، ثم وقف ليوزع قبلاته الأربع الشديدة الرطوبة بالتساوي على خدي. رغم أننا كنا معا قبل خمسة عشر ساعة فقط، أو قل سبعة فحسب، بعد خصم ساعات النوم الثمانية:
الحمد لله على نعمة لقهاوي التي لا تعد ولا تحصى؛ غير وحدة تنسيك في لخرى، وغير وحدة حدا لخرى، گد ما طال الشارع. تفضل برك تشرب معي شي قهيوة قلت متحججا:
للأسف ما غاديش نقدر، مزروب شوي، وما عنديش الوقت داب. ولكن إلى كانت على حسابك، ما كاين باس، نبرك معك شوي نقرقبو الناب مع لحباب ضحك حتى ظهرت سوساته الداخلية، رغم كثافة دخان سيجارته الدوار وسط فوهته السحيقة، وقال:
أحياني عليك أ الشيطان، أنا لي كنعرفك. شكون لي غادي يخلص على لاخر أنا ولا انت؟ علاه شكون فينا لي كيشد إماهم أكثر من لاخر؟ وانت مرة مرة فين كتشدك النشبة وكتگلس في القهوة.. ماشي بحالي أنا ولاو كيحسبوني مع لكراسة وطوابل، أول ما كيهزو الريدو وينزلوه
ونا لي كنعرف لي كيعرض على شي واحد هو لي كيخلص.. وزيدون شوف شحال من جورنال حط حداك.. ضرب الحسبة وغادي تلقى بأنك شارب القهوة فابور، ومشيط شلا صريف من الفوق
هدي عندك فيها الصح. يلاه غير برك مرحبا بك، وخ نعرف نمنك قهوة عشية على قبلك
وهداك شغلك. أش داك انت گع تعرض علي ملي انت زاوي؟ وانت عارف أن آخر شهر هدا؟ حين أخذت مكاني على كرسي جديد ومريح، سألته:
ولكن أشنو هو الفرق لي كاين بين هد القهوة وبين هديك القهوة لي كتبرك فيها؟ ولا انت غير فين ما حلت شي قهوة جديدة كتصبح منبت فيها انت الأول. ما يكون غير شي غبار هدا مولى هد لعجب، شفتو دافع الباگيت صحيح هنا
أمسك عن متابعة الحديث عند اقتراب نادلة منا ما شاء الصانع الذي أبدع في صنعه. بقد ممشوق، وابتسامة آسرة زادت من حسن محياها الطفولي البريء. ثم قالت بلكنة غريبة، وبصوت رخيم لا يكاد يسمع:
أش تشرب أسيدي؟
لم أشعر متى أفلتت مني هذه العبارة:
سيدي وسيدك رسول الله
وبقيت دهرا كاملا محملقا فيها بكل عيوني، إلى أن نبتت على سفوح وجنتيها كل الفواكه، والخضر الحمراء التي أعرف ولا أعرف. فلم تجد بدا من أن تلتفت هاربة إلى الداخل، وعيناي تلاحقانها، وقلبي يردد قبل لساني؛ مفخما لاماته مع تشديدها وتمطيطها بقوة:
ويلّي ويلّي ويلّي
ثم التفت نحو صاحبي مؤكدا:
وا سمعني هدو هما الگارسونات وإلا فلا، ماشي بحال هداك لمخنن لي في القهوة لخرى.. نهار كامل وهو حاير كيسرح في هداك القادوس لمبوشي ديما عندو
وراك صگع صافي، هانت حشمت الدرية داب
الدرية! والله إلى حشومة عليك تگول على هد الزين كامل درية. هي أ العفريت هد لغزالة هي لي جابتك لهد جبل.. أودي لهد القهوة؟
راك عارفني أنا ما عنديش أصلا مع لعيالات
عيالات! علاه هدي آدمية بعدا؟ هدي رها حورية يلاه خارجة من لبحر، وما زالة ساردة تتگطر بما ورد وزهر. ويلّي ويلّي ويلّي. والله إلى حياتك ضايعة أمولاي الخير
أش تشرب انت؟
علاش؟
غادي نمشي عندها لداخل نگوليها أش تجيب لنا. را محال واش باقة ترجع لعندنا بسبابك، ونا خصني قهيوتي لي تتگاد لي مجاجي
قفزت كالملسوع من مكاني:
والله ما تحرك من بلاصتك، أنا لي غادي نمشي عندها. ياك غادي تشرب كيف العادة قهوة مهرسة؟
سارعت صوب الكونتوار، قبل حتى أن أرى وجهة تحرك رأسه؛ هل هي ناحية التأكيد أم النفي. ولم أعرف ما الذي أخذ يكبح جماحي شيئا فشيئا كلما دنوت منها. وما إن وقفت على مشارف حسنها وبهائها، حتى جف حلقي، وسرت ارتعاشة بداخلي، وزاد ثقل جسمي على ركبتي؛ فكدت أهوي أرضا؛ متوكئا عليهما بدل قدمي. ومع ذلك أفلحت أن أقول لها حين غرست ناظريها، المكللين بتاجين مرصعين بأنفس الأهداب، في حذائي الذي أحمد الله أنه كان جديدا يومها:
صاحبي باغي قهوة مهرسة كيف العادة، ونا باغيها مدگدگة إكسبريس گع.. وبلا ما تجيبي لي السكر.. يكفي تغطسي غير صبعك صغير فيها؛ باش تولي كريم سيري.. عسل حر أعبااااد الله.
كم تمنيت حينها أن أصرخ بالعبارة الأخيرة حتى ترج المكان، لكن اعتقلتها بأعماقي فاسحا لها المجال بعض الشيء، فجعلتها تخرج بصوت خافت؛ حتى لا يتحلق حولنا أولئك المتربصون لأي حركة غير عادية. وما أكثرهم أولئك الذين لا شغل لهم في حياتهم الدنيا إلا التحلق، والتعلق في الفراغ بأعناقهم المشرئبة كالدببة. أجابتني بضحكة ذات نكهة خاصة؛ لا قبل لي بماركتها المسجلة. لم أدر متى وكيف عدت أدراجي، واستقر بي الحال بجانب صاحبي، واستفهامي يطير وينزل من مقلاته:
ماشي من هنا، ياك؟
لا..
واش جابها مسكينة لهنا؟
كانت مزوجة بواحد خينا هنا قبل ما يطلقها...
هي مطلقة؟
صافي دغية ساحو ريوگك؟
لا لا عندك تسحابني سافرت بعيد، بلا ما نگطع الورقة من الگيشي
وا منعرف.. ما رضاتش ترجع لمدينتها، يمكن خافت من عائلتها تلومها علاش دارت راسها في هداك خينا من نهار الأول. ويمكن باش تبقى هنا قريبة من ولدها لي شدو باه. حيت فيه الله يستر وليداتنا ووليدات جميع المسلمين مرض التوحد
مسكين الله يشافيه.. ما يكون بلا شك غير شي حمار هدا لي سمح فهد لغزالة كلها. هي عارف سميتها؟
ها هي جاية وسولها بنفسك تصل ومعها كل الدنيا. تضع المطلوب على المائدة بيد مرتعشة أمامنا، وهي تفتر عن ابتسامة، وتسترق نظرات خجولة إلي. فخاطبتها وأنا أشد بإحكام زمام يدي أن تنفلت فتسرح في ملكوت الله، فيحدث ما لا تحمد عقباه، والثمار ما زالت في مستهل موسمها؛ لم تنضج بعد:
القهوة زوينة عندكم
تدخل صاحبي لرفع الحرج عنها فقط:
دقتيها بعدا؟
القهوة غير من ريحتها يبان لك العربون
تسرع عائدة، تجر خلفها كل الدنيا. يحركني صاحبي بقوة لينبه سمعي إلى تعجبه:
وا سبحان الله أ لفقيه، شفتك گع ما سولتيها على سميتها!
را خص لي يسول ليا أنا على سميتي، راني وا تلفتها
يا ربي السلامة گع هدشي طرا لك؟
والله إلى راك عزيز علي أخاي ملي بركتي اليوم هنا
احتسيت حسوة طويلة بكل انتشاء من فنجاني، وكأن مفتاح الفردوس الأعلى في جيبي الأدنى، فخرجت الحروف من الدرك الأسفل من نفسي، مشقشقة كعصافيرها النورانية:
والله إلى العظمة ما منوش هد القهوة.. غير بضاض لي ما قالوش وا هي وعدي
كيف لخرين في الأول كيديروها مزيانة هي هديك، تقول هنا نبات ونفدي عمري على گريني.. غير شوي يكتر عليهم بنادم، ويوليو يدفعو لهم غير الما وزغاريت بلا لسان ولا حناك
ما گلتيش لي أشنو سميتها؟
ما كاين مشكل نگولك، ولكن بشرط تخلص لقهاوي بجوج؟
حصلتني أ العفريت وشدتيني من ليد لي ضراني.. ما كاين باس يلاه گول أسيدي
منية
صافي جابتها في نيشان هنا، وهنا، وهنا، في كامل وصافي. ما خلات مني رصاصة تا بلاصة
ونزيدك تاني حاجة اخرى غادية تعجبك بزاف
زيدني أخاي، غير بونيني اليوم، وعطيني فين ما عجبك. للعينين، للفم، لضلوع، للشاكلة... فين ما عجبك
رها مجازة في نفس التخصص ديالك
صافي مشيت فيها أخاي الله يرحمني. غير ديني كفني بشعورها، ودفني في صدرها يقف أحدهم فجأة علينا. خلته في الأول من هيئته أحد السعاة؛ الذين يتناوبون على المكان على مدار الساعة. فإذا به يشير بإبهامه المقشر كجزرة فاسدة - الذي ما زال أثر جريمة الوشاية الوقحة عالقا به - إلى كومة الجرائد، دون أن ينبس ببنت شفة في ذهابه كما في جيئته. فأوحيت إلى صاحبي بغمزة وحركة ماكرتين مني بأن يعطيه كل الجرائد للتخلص من وقاحته بسرعة؛ لأن الوقت ليس وقت تصفحها الآن، وإنما وقت مزيد من الكي، والحكي عن غزالتي الشاردة.
يبتعد الشخص وكوشك الجرائد تحت إبطه لينزوي في أحد الأركان، ليتفرس في الوجوه بدل الأوراق بعينيه الجاحظتين والجائعتين وسط عبوس بئيس. فكرت أن أقوم لأخمدهما له حين أخذ يتطلع إلى منيتي، ويقهقه كاشفا عن أسنان لم يبق منها سوى اسمها فحسب، كقرد أجرب، قتل أمه لحظة خروجه إلى الحياة. ولكن من حسن حظه التعيس أن علامة استفهام جد ملحة شغلتني عنه:
إوا هي ما لقات فيه خير ولد لحرام؟
ولكن العجيب من هدشي كامل هو لي غادي نحكي لك داب أش جرى لها مع القاضي. إلى ما كنتيش مزروب
لا مزروب، ولكن باش نسمع أش جرى لها مع سعادة القاضي المحترم.
حين حان دورها، وتمت المناداة على اسمها، توجهت نحو الباب الجلدي الكبير. وقبل أن تطرقه، عدلت لباسها، وسعلت سعلتين خفيفتين لتنشيط دورتها الدموية، المتجمدة من جراء طول جلوسها في قاعة الانتظار. لقد دقت ساعة الحقيقة الآن، خاصة وأنها الجلسة الأولى ما قبل الصلح. فلا بد أن تكون كل قواها العقلية والنفسية حاضرة ومتوثبة.
ادخل
رفع بها القاضي صوته الأجش؛ وكأن الباب باب جهنم؛ يوجد على بعد عدد سنوات عمرها الثلاثين.
فتحت الباب بكل احترام لصاحب المقام، فرأت كومة لحم بدون عظم متهدلة على المكتب وتحته. رفع سعادة القاضي المحترم رأسه ذا الشعر المزيف، يحملق فيها بعينين صغيرتين؛ تكادان تغوران في جوارهما، خلف نظارتين سميكتين. وحاول عبثا أن يستقبلها أيضا بابتسامة، لكن يبدو أنه نسيها، أو نسيته منذ مدة. واستغربت قيامه بمشقة النفس من مكانه؛ إلى أن كاد أن يقلب المكتب وما حمل، لولا نزول لطف الله. ومد لها يده، أو قل عشرة أيد في واحدة. ثم أشار لها بأن تتفضل بالجلوس أمامه. وكم خشيت أن يتلاشى كرسيه حين هوى عليه دفعة واحدة، فسمع له دوي كأنه شكوى، لولا نزول لطف الله مرة ثانية. وتناهت إلى سمعها أصوات زفراته المتسابقة نحو الخارج؛ وكأنها رأت الفرج أخيرا. فقالت في نفسها لو قدر للعدل أن يكون شخصا، هل كان سيتخذ شكل هذه الكتلة العظيمة؟
وما كاد يستقر بها القرار على المقعد أمامه، حتى مال نحوها وقال لها:
تشربي شي حاجة؟
لعدم تصديقها ما سمعت، خرجت إجابتها مسرعة:
لا بلاش الله يكتر خيرك أسيدي
جحظت عيناه اكثر
والله حتى تشربي شي حاجة
ضغط على زر بجانبه الأيمن، فانفتحت نافذة صغيرة بجانبه الأيسر. انزلق منها وعاء عليه كأسان من مشروب بلون عجيب، وصنف حلويات غريب. مد لها كأسها الذي لا يكاد يظهر بين راحته
تفضلي
الله يقوي الخير بارك الله فيك أسيدي
صب كأسه كريرو في بطنه على طابور حلويات
هد العصير والحلويات كيجيوني خصيصا من برا كنحماق عليهم.. إوا شربي مالكي حشمانة وخدي لك شي حليوات.. غيركوني هانية ها الملف ديالك قدامي، مسبقو على كل هد العرام ديال الملفات لي كتشوفي هنا
الله يجازيك أسيدي
غادي نربي والديه ونوريه كفاش يتكرفس على بنات الناس
الله يرحم الوالدين أسيدي أنا ما بغيت حتى حاجة منو بغيت غير يرجع لي ولدي
غادي نهنيك منو نهائيا غير كوني هانية باش ما تبقايش تفكري في هد الموضوع وتبداي حياة جديدة
وهو يضغط بيده على يدها. تخطفها وتقوم متوجهة نحو باب الخروج. فكر لو نهض من مكانه سيتأخر كلامه وهو الفيصل والحاسم
مالكي مزروبة راه مازال ما كملنا كلامنا وما قلتي لي والو
أش نقولك أسيدي؟
صافي غادة تبداي حياة جديدة؟
هنا قطع يقينها شكها بخصوص ما يرمي إليه فرمته بسهم سؤالها:
هي ناوي تزوج بي؟
بشت أساريره لتحققه من سلكها الطريق الذي يريد
وعلاش لا.. ما غاديش تلقاي بحالي ونلقى بحالك، ولكن أنا راني مزوج وعندي زوج ولاد صغير فيهم عندو 18 سنة
إوا؟
إوا نشوفو شي صيغة اخرى
بحالاش؟
راكي تبارك الله فاهمة وعارفة أش بغيت نقصد، ورا ما يخصك معي حتى خير
اسمح لي أسيدي أنا ماشي كيف كتفكر
منذ أن مرقت خارجا توالت عليها مضايقاته، وتماطله الظاهر. ولم تعد تحضر للجلسات إلى أن أسقط حقها ظلما وعدوانا، رغم توكيلها لمحام تبين لها فيما بعد أنه من بطانة سوئه، فلا داعي للجري داخل هذه الدائرة المفرغة حد انقطاع الأنفاس.
ولاد لحرام، محال واش يتحفر قبرهم وخ بالكمبريسون
هكذا علقت. بقينا أياما على هذه الحال إلى أن سألتها يوما، والطمع في موافقتها يطوح بي في كل اتجاه:
واش تقبلي علي نكون راجلك على سنة الله ورسوله؟
صرخت بالفرحة وهي تضع يديها على فمها فأفلتت الوعاء، وما كان فيه ليرتطم على الأرض محدثا صوت تكسير متردد التفت له الجميع. فدوت زغرودة قوية خلتها من أمي فإذا هو صاحبي يلوي لسانه سريعا بين شدقيه. فتعالت التصفيقات والتهليلات من كل جانب في المقهى، ونحن خارجان يدها تشد بإحكام على دراعي، وعيناي تصبان في عينيها شلالا متدفقا من المشاعر الجياشة. قد ربط شفتينا رابط ابتسامة متين. وكانت تلك آخر مرة أراها في المقهى. نزلت عند رغبتها بأن نسمي ابننا البكر الذي أتى راكبا العجلة قبل أوانه على اسم وحيدها الذي توفي في يومه وساعته، وكأن مشيئة الله أرادت أن تعوضها عنه خيرا، وتجبر كسور خاطرها.
تحت وقع فرحتها العارمة، استسلمت ليلتها لحكاية قسط كبير من ماضيها؛ إذ اكتشفت لأول مرة أن أصل عائلتها يعود إلى مدينة القيروان. كان جدها الهالك تاجرا كبيرا يتنقل شرقا وغربا، لكنه استقر به الحال بالمغرب رغم أنفه ذات سقوط أعمى في واد سحيق يدعى الغرام. خاطبتني ضاحكة:
ـ هانت اليوم كتعيد التاريخ، ولكن في الإتجاه المعاكس.
أرخيت رجلي وضحكتي المقهقهة التي أوقفها وقوف النادل أمامي. التفت في كل الجهات، لأجد أن مائدتي وحدها الباقية.
سرت في الطريق، وعلامات استفهام كبيرة ترفرف حولي، لا سيما وأن صديقي توفي بجانبي قبل سنتين ونصف تقريبا في حادثة سير مروعة، ونحن على مشارف مدينة القيروان.