كتب أحدُ المنتمين إلى فئة الميسورين رواية عن سنوات الرصاص. لم يحدث أن زار مَعْقَل درب مولاي الشريف أو تازمامّارْت الرهيب في زمن الرجل الحديدي إدريس البصري (رحمه الله؟). انتظر حتى جاء «العهد الجديد»، ثم أخرج قلمَه ال«باركير» المذهّب اللسان، وسارع إلى اختراع الكتابة عن التجارب السجنية المُرّة التي تكبّدها بعض رموز المعارضة. الطقوسُ هكذا: ويسكي في كوب من نحاس، سيجارة «دانهيل» براشح فضّي، ورق فاخر من شجر الأرز، ومشهد المحيط هادئاً عبر شرفة الشاليه: ـ لا مجال للنسيان! ـ يقول الألمعي لشخصِه ـ تذكّر ما قرأتَه عن عيشة المُغرّر بهم في هذا البلد. تذكّر كلّ واحد باسمه وحاذر ألاّ تعطيني الإلهام! إن لم تعطنيه، أقسم أنني سأكسرك. أريد أن أكتب عن عذابِهم... التيمة خصبة، والأجواء تسمح بذلك... تدلف خليلته ذات الشعر الذهبي بقامة منحوتة في الرخام الأبيض لِتسأل: ـ ماذا تكتبُ يا حبيبي؟ ـ إنها رواية عن المساجين. ـ أوفّْ ! إنّه موضوع سخيف. لماذا تكتب عن المجرمين؟ ـ إنهم ليسوا مجرمين؛ هم ضحايا أوهامهم فقط. ـ لماذا لا تكتب عن قصّة حبّنا؟ قصة حبّنا أهمّ. هل نسيتَ كم تعذبتُ عندما تحدّيْتُ تهديدات أسرتي بحرماني من الأموال وجئتُ لأعيش معك؟ أليستْ قصة حبّنا رائعة... يرشف الأمعيُّ من كوبه ومن سيجارته ويقول: ـ صحيح ما تقولين، ولكن الموضة الكتابية الآن عن المساجين... إنه أدب السجون، فاتركيني يا حبيبتي لكي لا يهرب منّي الإلهام! تكسر خطاها وتلتفت إلى قفص حديدي فيه طائر كناري: ـ تيوْ تيوْ تيوْ...! تلتفتُ إلى «أبو قلم»: ـ يبدو هذا الطائر حزينا... ألا يغنّي؟ ـ هو على هذه الحال منذ ماتتْ خليلتُه. ـ المسكين! ألا يمكنُك إطلاقُ سراحه؟ ـ هذا أمرٌ مستحيل. ـ كيف «مستحيل»؟ يكفي أن تفتح له باب القفص فيطير للبحث عن خليلةٍ أخرى. ـ قلتُ لك هذا مستحيل؛ إذ لا يمكن لنا السماحُ بالحريّة للطيور وليدة الأقفاص. ـ لا أفهم. ـ اسمعي يا حبيبتي؛ إذا أطلقتُ سراحَه سيموتُ من الجوع أو تأكله القطط؛ والآن دعيني أتمِم روايتي! «... فجرّوه إلى مكان التعذيب؛ وهناك عرّوه تماما، ثم أدخلواْ عليه كلباً مدرَّبا على الاغتصاب...». الجوّ حار. تفسخ الخليلةُ كسوتَها، وتبقى في «مايو» سباحة بنفسجي، ثم تتمدّدُ على فوطة كبيرة تحت شمس الغروب. يلتفتُ إليها الألمعيّ ثم يعود إلى نصِّه المفترض. ويسترسل في الكتابة بصوت مسموع: «... وبعدما أهانوه تلك الإهانة، أعادوه إلى الزنزانة وهم يتضاحكون وهو غارق في الإحساس بالذنب...» ـ كريمْ، انظر إلى هنا! ولمّا نظر، رآها من دون حمّالتيْ الصدر، وفي يدها كأس ويسكي كبير. ثم استدار إلى ما كان في يده وكتب: «... ثم أعادوه إلى غرفة التعذيب. فماذا رأى؟ رأى زوجتَه الشابّة عارية تماما... رآها جميلة أكثر، ونهداها الصغيران الناعمان منتصبان...» ولم يقدر على مواصلة الكتابة... وبعد أيام، استدعته إحدى الرابطات الأدبية ليوقّع «روايتَه الجديدة المجرّحة بعنوان: الرصاص». واكتبي يا صحافة مُشتراة عن «المُكتِّب» ابنِ فاس والرباط؛ وأطنبواْ يا «نقدة» في ألمعية الألمعي، وانشري يا دور النشر الآلاف من «الرصاص»؛ وادعمي يا وزارة كُتُبَ النفاق...