مساء يوم الأربعاء الموافق السادس من حزيران 2012، ظفرت بفنجان كبير من الشاي المعطر، وكانت الساعة الثامنة وعشر دقائق مساء، والنهار ما زال كاشفاً، مع ان الشمس غرقت في سهول أمريكا الغربية واختفت، إلا أن بقية من نور في الأرض ما زالت تدخل البهجة للنفس، حملت فنجاني وفكرت بأن أفضل مكان أشربه فيه أن أذهب لموقعي المفضل على كرسي بلاستيكي رخيص مثبت أمام حظيرة دجاجاتي الصغيرة عادة، و نادراً ما يحركه أحد، حتى إن زوجتي صارت تستخدمه للجلوس عليه، حين لا أكون موجوداً، وألاحظ أنها تسرق نفسها للذهاب هناك حين أغفل، وربما تحمل بين يديها شيئاً من طعام الأسرة الذي نحن بحاجة إليه لتدلل دجاجاتي، وربما صارت تعتبرهن دجاجاتها هي الأخرى، لم تبد حماساً في الأول لاقتناء الدجاج، لكنني بعد أن جهزت لهن مكاناً خلف الدار، لم تعد تعارض في هذا الأمر، لا بل صارت تقضى ساعة صباحاً تراقبهن،وأحياناً تمكث ساعتين قربهن تتأملهن وتطعمهن أشياء لا أعرف عنها.
جلست على كرسي العرش على مملكة الدجاج، وكن على وشك الدخول لغرفة النوم، ولقضاء ليل طويل، لكنهن يكرهن أن يفارقن اطراف حوشهن حين أكون قريباً، نقنقت إحداهن، او ربما واحد من الديوك، وما زلت لا أعرف الديك من الفرخة، فلم تبد الملامح التي تفرق بين الديك والدجاجة على فراخي بعد.
دجاجاتي ثلاث عشرة، أدعوهن دجاجاتي لكنهن في الواقع دجاجات العائلة، كالأطفال تبنيناهن، لم نخلق جواً لأمهاتهن ليفرخن في حوشنا او حوله، لكننا اشتريناهن على ثلاث دفعات، وبعمر اسبوع إلى أسبوعين، وهاهنّ يبلغن من العمر خمساً وأربعين يوماً إلى خمسين، إن تربية الدواجن والأطفال والكلاب في امريكا أمر مختلف عنه في غيرها من البلدان، يتميز كل شيء بصفات وبمواصفات يتطلبها لنجاح اقتنائه، ولا أريد أن أتوسع في بحث هذه النقطة، فربما يعرفها معظم الناس، ولكن قد أعود لها في قادم الأيام.
أجدها ملهاة وهواية وواجباً، قال لي أكثر من شخص، وهل لديك الوقت لتهتم بالدجاج؟ هل ملأت كل أوقاتك بالفوائد والمهمات المفيدة، وبقي لديك وقت تهتم حتى بالدجاج؟ ابتسم كلما سمعت مثل هذه الأقوال، وهناك أمور لم اتطرق لها بعد، برغم انني اكرس الوقت الكافي حسب طاقتي وعمري وقدراتي للقراءة والكتابة، وهما المهمتان الأساسيتان اللتان أقف حياتي من أجلهما بعد أن أكملت مهمة تربية أبنائي وبناتي، وكبروا وتزوج معظمهم، والقليل منهم في الجامعات او العمل، وبأعمار تزيد عن العشرين عاماً إلا طفل واحد يبلغ من العمر اثنتا عشر عاماً. وهو ناندراً ما يحتاجني، بل ربما تدخلات إخوانه وأخواته في تربيته وتلبيه مطالبه جعله يحس بعدم الارتباط القوي بي، أتمنى أن لا يشذ عن اسلوب فكري وتربيتي، لكنني لا أقلق لو لم يتبع ما أريده منه، فالكل يتدخل في تربيته ومساعدته او نهيه، أما القراءة والكتابة فهما تحملانني معاً في سفينة الحياة، وأبحر بهما إلى المكان والزمان الذي يمر في خاطري،ولم أعد أولي نشرات الأخبار العالمية والعربية أهتماماً كبيراً كالسابق ايام الشباب، وبسبب الإحباط المتكرر والهزائم المتتالية في عوالمي التي أعرفها، وأمور دولية تسلطية أخرى لا فكاك منها، قررت أن أنأى عن هذه الهواية، وهناك ملايين غيري يهتمون بها، لكنني لا أستطيع – وللأسف- أن أتخلى عن متابعة الشأن الفلسطيني، فالظلم الذي يحيط بالشعب الفلسطيني من كل الاتجاهات يحيرني ويقلقني وينغص عليّ عيشي، ثم هناك هواية أخرى وهي حبي للمشي، ومنذ ستة شهور قلت مرات المشي عندي، فأصبحت لا تتعدى مرتين أو ثلاثاً على الأكثر كل اسبوع،ولمدة ربع ساعة إلى نصف الساعة. وأحب أن أمارس لعبة طاولة البليارد، ولحسن الحظ فإن اربعة من أبنائي يحبون لعبها ويتحدونني بها، أغلبهم أحياناً ويغلبونني في أحيان كثيرة، وفي هذه اللعبة حظ كثير، وألعبها في الشهور الأخيرة بشكل يومي تقريباً إلا حين أكون مشغولاً أو مهموماً أو متعباً أو عندي زيارة لطبيب ما، وما أكثر تخصصات الأطباء الذين أحتاجهم، لكن لا خطورة ولا تهديد من اي متاعب صحية في جسمي والحمد لله، طبعاً حتى تاريخه، وانهيار كل مخلوق في هذه الحياة لا شك آت، ولكنني لا أهتم بهذه الفكر لا بالقليل ولا بالكثير، فلست أول واحد سيموت، ولا آخر إنسان.
إنني لم أنته بعد من سرد هواياتي، وأعتذر لدجاجاتي، فقد انشغلت عنهن قليلاً، وانا مازلت أجلس أراقبهن حتى وأنا أكتب، والعجيب انهن يداورن ويقتربن من الشبك، ثم يعدن لمدخل الحجرة الخشبية التي يرغبن المبيت بها، لم أبخل عليهن، فبنيت لهن أربع بيوت، لتختار كل منها المكان الذي يروق لها وتستريح فيه، والأماكن التي بنيتها بنفسي لها ومن قطع الأخشاب الزائدة حول المنزل، ومما اجمعه من ألواح من الأقارب ومن محلات بيع مواد البناء، والتي تكون غير صالحة لبيعها بسعر السليم، أو مقصوصات زائدات لدى المحل، فاشتريها بأسعار رمزية. ولحسن حظي وحظ دجاجاتي فهوايتي هي النجارة، وتعلمت شيئاً منها في المدرسة الثانوية، بشكل رسمي ومنظم مفروض في المدرسة التي درست بها وهي مدرسة بيت حنينا في العامين 1945 و1955 وقرية بيت حنينا أصبحت حيا من أحياء القدس الشمالية.
ذهاب دجاجاتي صوب باب حجرتهن ثم عودتهن للاقتراب مني، وهيهات يستطعن الاقتراب مني، بسبب الشبك الذي يحميهن من غوائل الحيوانات البرية والمفترسة، لكنهن وهكذا احسّ وافسر، انهن يشاورن عقولهن أو يشاورنني متسائلات هل تسمح لنا بالذهاب للنوم أو ستقدم لنا طعاماً إضافياً او جديداً قبل المنام؟ الحظ التردد والتلكؤ بشكل متكرر ومن طبيعة مشيهن المتردد، أثناء الذهاب والأياب. وأستمر في ارتشاف ما تبقى من الشاي المنعش والمعطر حتى أتيت عليه، صار الظلام يحل على الأرض، تدخل ثلاث أو أربع منها للمبيت، وكما قلت لا أستطيع أن أحزر هل الديوك هي التي دخلت أولاً ام الفرخات؟ في مثل هذا المساء قبل خمسة وأربعين عاماً كان الفلسطينيون يغادرون بيوتهم مكرهين في بقية فلسطين عام 1967 حين تأكدت هزيمة الجيش المصري والجيوش العربية الأخرى، لكن دجاجاتي لا يغادرن بيوتهن ويكرهن التفكير بهذا، تذكرت أنني بنيت لهن أكثر من بيت، وكل بيت منها يتسع من خمس إلى عشرين، أي بمقاسات وأحجام مختلفة.
أما الهواية التي أتقنها وأتحدى بها أعتى اللاعبين فهي طاولة النرد، وللأسف لا أجد حولي هنا في أمريكا من يتقن لعبة طاولة الزهر ويكون على مستوى كاف ليواجهني وينافسني، فأضطر للجوء إلى الشبكة العنكبوتية أبحث فيها عن لاعب عبر الانترنت وعادة المصريون هم الأكثر عدداً والأمهر في هذه اللعبة، لاشك انني عثرت على سوريينن ولبنانيين وفلسطينيين لعبوا معي، لكنهم قلة، أما من مصر فأستطيع أن أجد لاعبين كثر جاهزين منتظرين.
لم أنته من سرد هواياتي، فكل مكان أقيم فيه لا بد أن أنشى حوله مزرعة صغيرة تتناسب وقدراتي وطاقتي، فكلما كبرت صغرت مزرعتي ففي الخمسينيات من القرن العشرين أنشأت مرزعة من أربع دونمات في فلسطين في قريتي بيت سيرا، وحين بنيت بيتاً كبيراً في عمان، عمرت مزرعة بمساحة 500 متر مربع بجانب العمارة التي أخذت 500 متر أخرى، وأحطت الجميع بسور أسمنتي حصين مرتفع، وحين انتقلت للإقامة في أمريكا اقتصرت مزرعتي عل مساحة محدودة بقدر طاقتي على إدارتها وخدمتها وبمساحة مترين في خمسة عشر متراً أي ثلاثين متراً مربعاً. وفي مساحة قدرها ثلاثون متراً مربعاً تستطيع أن تزرع بها الكثير الكثير، حين تكون التربة خصبة رخوة وتدعمها بالسماد وبالأمطار ا و الري الكافي، فيها من البنادورى ما يكفينا لشهور الصيف ويزيد الكثير منه، نوزعه على ابنائي المتزوجين والمتزوجات، فيها الكثير من الفلفل بأشكال مختلفة، والكوسا شكلان الأخضر والأصفر، ثم الخيار،وقليل من الذرة الصفراء والنعناع والبقدونس وأحواضها كثيرة وغزيرة خصبة، ونوزع من هذين النوعين الكثير للعائلة، أما عن أشجار الفواكه المثمرة فقد زرعت ثلاث شجرات تفاح وشجرة دراق كبرت بسرعة،وأعطت ثمارها للمرة الأولى هذا العام، ثم شجرة لوز وشجرتا تين وهما بدأت بالإثمار هذا العام، وقد زرعت قبل شهور عدداً من نباتات الصبار المثمر.
أقضي ساعة إلى ساعتين في مزرعتي كل يوم، ومع صغر مساحتها، إلا أنني ادور حولها واتفقد نباتاتها من الأعشاب الضارة وهناك ديدان الربيع التي تأكل البنادورى والفلفل ولولا انتباهي لما سمحت تلك الديدان بنمو أغصان جديدة لأي شجرة، لأنها شرهة وتتغذى على الأغصان الطرية، ولا تبقي ولا تذر منها.عدا عن امتصاصاها للسائل النباتي الغذائي الذي يصعد لأطراف الشجرة. سبق واشتريت أدوات خفيفة صغيرة لخدمة مزرعتي المتواضعة. ومع اهتمامي بالمزرعة الصغيرة، إلا أنني رعيت سيصاني رعاية تامة، وأكثر ما يلزم الكتكوت الصغير هو: النظافة والدفء الزائد والطعام المناسب ، فإن توفرت هذه العوامل للكتاكيت فلا تموت فراخ أمريكا، لا بل ما أسرع ما تنمو وثنبت الريش عليها ، ولا تعود بحاجة للتدفئة بعد شهر مارس آذار، ويمكنك اقتناء الكتاكيت الصغيرة منذ الشهر الثالث في العام حتى أواخر الشهر العاشر، بعدها ستحتاج إلى تدفئة كثيرة، ولأربع وعشرين ساعة كل يوم، وحتى بلوغهن شهرين من العمر أو أكثر، لكن الكتاكيت سرعان ما تنمو وتكبر وينبت الريش عليها ولا تعود حاجة للتدفئة بعد بلوغها الشهرين من عمرها المأمول أن يكون مديدا.
إنهن دجاجاتي اقتنيتهن برغبتي ، وقراري كان مثل قرار الزوجين حين يقرران البدء بمرحلة إنجاب الأطفال، لم تعارض زوجتى وأولادي الذي ما زالوا يقيمون معي الفكرة، وللمرة الأولى يحدث ذلك في حياتي، أعني أنني لا أجد أهل بيتي يقفون في وجهي معارضين ما أنوي فعله، وفي العادة كنت لو قررت شراء كتاب او طاولة للقراءة مثلا فلا بد من التذمر والمعارضة، وإن قررت تخصيص غرفة لي للمطالعة وكمكتبة، فسيعلن الجميع بعناد أنهم بأمس الحاجة لتلك الغرفة، والويل لي لو استخدمت طاولة السفرة لأضع عليها حهاز الكمبيوتر او الطابعة، والويل الأكبر لو صرت أنعزل في غرفة الضيوف للقراءة أو الكتابة او الجلوس عل مقاعدها الوثيرة المريحة غالية التكاليف