عكر الصرصار مزاجه، فخفت حدة بهجته، وارتشف قهوته الطازجة، واستنشق نسائم الصباح العطرة، وتمتع بزقزقة الكناري الأصفر، وبمنظر شقائق النعمان وهي تتمايل في حديقة منزله، ولكن قلق راوده من لونها الأحمر الفاقع، فتخيل جروح الحب اولا ثم تراءت له جروح عنيفة قادمة...
لعن افكاره ووساوسه التي أفسدت شاعرية اللحظة، ثم استغرب بعدئذ عندما تأمل شخصا ينظر اليه من خلال المرآة الداخلية لسيارته القديمة المتهالكة، وتبين له بعد برهة ان هذا الشخص هو نفسه هو ! أهو رهاب الارتياب؟ وعندما دخل لالقاء محاضرته فوجىء بقلة الحضور، اعتلى المنصة بقامته النحيلة ووجهه الشاحب، واندهش من العيون البلهاء الفارغة المزروعة في ذاته التائهة، وقال في سره مستعيذا "رب احفظني من النظرات السفيهة والحسودة "! وبدا له الجو مشحونا بالعداء والبغض المجاني كما لو أن مادة سامة قد امتزجت لفترة طويلة بالهواء ولوثته! كان يشعر بالارتياب والتواطؤ.
بعد الاستراحة الطويلة نسبيا، عاد نصفهم فقط، وكان العداء والملل قد بلغ اوجه ولم يبدأ شيء بعد، وأصبحوا الآن يعبرون عن استياءهم الشديد بالايماءآت والعبارات المشحونة بالسخرية المبطنة، ناهيك عن النظرات العدوانية والكشرة التقليدية، فأعطاه ذلك تحديا جديدا لكي يستمر في محاضرته الرتيبة، وقال في نفسه "لا بد من الانتهاء من هذه المحاضرة اللعينة!"، ثم فاجأه عمال مركز التدريب وابلغوه بضرورة اخراج الطاولات والكراسي فورا بغرض التنظيف والصيانة، والان فورا لو سمحت:
لأن ذلك ضروري سيدي، ونحن ننفذ تعليمات دقيقة! فأجاب بحدة مستاء:
لا...لا اوافق... انتظروا حتى انهي محاضرتي أولا!
ازداد حينئذ نفور الحاضرين منه، وبدأوا يستعدون لاسكاته، وشعر ببريق العدوان في نظراتهم الغبية... ثم سمع تمتمات غامضة، ولكنه بقي مصرا على اكمال محاضرته المملة:
لا..لن أيأس واحبط..فأنا روبوت بشري، واجبي ان اشرح لذواتكم ما سبق وكان غامضا بالنسبة لي! أنا مثقف هامشي متبجح، وظيفتي أن اوقظ وعيكم البليد في عصر التنوير والحاسوب!
هنا شعر بتفاهته وعبثية موقفه وهو ينساق مرة اخرى وراء رغبة جامحة وغير واقعية ومزعجة لوعظ أبناء عصره ، اللذين بدوا وكانهم قابعين في غيبوبة "أهل الكهف "! ولكنه تابع بعناد واصرار:
أنا حامل رسالة انسانية رفيعة، مجبر على نقل معرفتي الكئيبة لاناس يجترون حياتهم ويعانون من الاقصاء والاحباط! ثم استطرد وكانه يحدث ذاته:... ويشعرون بأهمية مزيفة ونرجسية جامحة! وتابع بنبرة خطابية واثقة:
هل تعلمون ايها السادة اننا نحن البشر لسنا سوى قشرة رقيقة تافهة على سطح الكرة الأرضية، فلوغرق سكان المعمورة أجمع في البحرالأبيض المتوسط مثلا، فهل تعرفون أيها السادة الكرام كم سيعلو منسوب المياه حينئذ ؟!
واجاب دون ان ينتظر بسخرية وتبجح العالم المطلع الوائق من كلامه:
عشرا من مليمتر! فقط عشر!
عندئذ طفح كيل الحضور ونفذ صبرهم، فصرخ احدهم معترضا:
وكيف عرفت ايها المدعي؟ هل قمت بقياس ذلك أيها المتبجح؟ انه مجرد افتراض تقريبي لعالم شارد مهووس! ثم ماذا يعنينا هذا الهراء؟ فنحن بالأساس لسنا بشرا!!