أدرتُ المفتاح في القفل، وأنا أتطلع من تحت الباب إن كان هناك أثر لشعاع ضوء، وأتضرع أن ألقاها داخل الشقة. لم تكن هناك، رغم أنها قالت في رسالتها القصيرة أنها ستحاول المجيء. قضيت تلك الليلة وأنا أتنقل بين زوايا البيت، وأنتظر في كل لحظة وصولها، وفتحها للباب بحذر كعادتها بنسخة المفتاح التي مددتها لها بعد مدة قصيرة من تعارفنا. لم تأت، مشيت إلى طلوع الشمس، عبر التنقل بين المواقع، والانطلاق بين القنوات، لم أنم.
ليلتها، عرفت أنني أحتاجها، كما يحتاج الفقير مصدر خبزه اليومي، وأن ليلي بدونها نهار كحلي. في الغد، اعتذرتْ عن عدم مجيئها، ووعدتْ أنها ستأتي في الليل، وقبل الموعد المعتاد. تخلصتُ من كل ارتباطاتي المسائية، أتممت عملي الصباحي في المكتب، وعلى غير عادتي، تناولت وجبة غذاء كاملة لأعوض الضعف الناجم عن سهري الليلة الفائتة، وسرت أنتظرها في الشوارع، وأمام المحلات التجارية، أبحث عن طيفها بين أطياف النساء، وأفتش عن ملابسها في واجهات المحلات، أجد ذوقها في شكل سيدة أنيقة تنزل من سيارتها، أضيّع عبقها في جو المدينة الملوث، وتحضرني ملامحها في وجوه كل النساء العابرة. لم أستطع أن أنتظرها في البيت، كنت فارقته، ووقفت على ناصية الشارع، أو أمام باب العمارة، أرقب قدومها.
عند الخامسة مساءا، كنت في الشقة، لم تكن قد وصلت بعد، بدأت أتفقد البيت، أضأت المكان، ضغطت على الزر ليدور قرص الموسيقى، سمعت حفيفا عند الباب، كانت هيَ، لم تخلف موعدها، لو فعلت، لكنتُ انقضيت تلك الليلة. شيء ما تغير في غرفة الصالون عندما دخلتها، أو خيّل لي، لا أدري، المهم أن الموسيقى المنبعثة من القرص، كان يصاحبها شدو الأثاث، وآهات بلاط الأرضية من ملمس قدميها، والآلات خرجت من وجومها، وارتسم الرضا على وجوهها. كانت مستأنسة بالمكان، وتعرف تفاصيله، تسأل عن أي شيء تحول من موضعه، لم يثر انتباهها تلك الليلة غير صورة متوسطة الحجم، لصبي من إفريقيا الوسطى، بابتسامة حائرة، ونظرة إلى البعيد، يشع منها الانتظار، يقف وسط بساط حقل أخضر، وخلفه سماء زرقاء. كان قد أهداها لي زميل عند عودته من تغطية أيام للتضامن مع الأطفال الأفارقة، ووضعتها بين المجلات في انتظار أن أجد لها موضعا. بعد أن تفحّصتها قالت بلهجة ساخرة: " اقتنيتها لتزيّن بها جدار الصالون، الأطفال السود يضفون على المنظر رونقا، أليس كذلك؟". لم أكن أرغب في خوض نقاش ولو قصير معها، مددت يدي نحوها بكوب مشروبها المعتاد، ودغدغت خدّها بين سبّابتي وإبهامي، وقلت وأنا أتطلع إلى جبينها: "لا غرض لي فيها، لا رونقا ولا تضامنا، هي هدية من زميل، غرضي فيكِ أنتِ". جذبتها بقوة من ذراعها كي أبعدها عن الصورة، وأجلسها وسط الصالون، كاد الكوب يُهرق بين يديها، أخذته منها، ووضعته على الطاولة. هدأتْ بصعوبة، كانت تتشبث بإطالة النقاش حول اللوحة، وكنت أهرب منه. لم تكن تنقصني غير هذه الصورة التي التقطها صحفي في مكان ما، باندفاع ما، وفي إطار ما، لتفسد عليّ لحظة انتظرتُها، بكل ما فيّ، وبكل ما لديّ حتى قبل طلوع النهار. فررتُ بها من اللوحة، ومن المكان، من ماضيها، ومن حاضري، من الكهل الذي ينفق عليها، ويحتكرها، ومن وضعي المهني، وأجرتي التي بالكاد تكفي مصاريفي، وقليلا من نزواتي. حملتها إلى حيث التفرد، والتوحد، حيث ازدهار الذات، وتوهج الجسد، حيث انعتاق الفرد، واسترقاق الجوارح. لا زالت بجواري بعيدة، وأنا مرمي على رمال شاطئ، تنسحب أمواجه، ليدركني الجزْر. هو حضورها هكذا، يشرح خاطري، يمددني، يرسيني، يهديني إلى مناري. غيابها يبعثرني، يُتلفني، يجفّفني، يسحب معه هنائي.
عندما كانت أمام المرآة، تطل على خيالها، استعدادا للخروج من ليلتي، وضعت يدي على خصرها، ووشوشتها: " لماذا لا نتزوج؟"، انفلتتْ من يدي وردّت: " دروبنا تتقاطع، والطريق إليّ تنأى، أما الزواج فللعاديين فقط، وأنا لست عادية، أنا أقل بكثير". تناولت حقيبة يدها، وضعت على خدّي قبلة خاطفة، وجرّت الباب وراءها بحذر، كعادتها.