عدنا في زيارة عائلية لمدينتنا التي ترعرعنا فيها...طلبت من والدي أن يعرج بنا ونحن نقترب من الحي على الثانوية التي درست بها. وكانت تقع بالقرب من ضريح الولي الصالح الذي بنيت بجواره. فراعني أن رأيت أن الضريح الذي كان مهترئ الجدران، بدون سور يحميه ترتاده الكلاب الضالة في غفلة المشرف عليه لترفع قائمتها وتقضي حاجتها الطبيعية. ساحته متربة.بنيت على الضريح قبة طينية عليها ما يشبه الجامور قد انحنى في اتجاه الشمال. وترى النساء والعوانس يقصدنه زرافات زرافات، قد رمم ترميما مبهرا.طلبت من والدي التوقف لحظة، قمت بجولة قصيرة. باب خشبي كبير لم أر مثله إلا في فيلات الأحياء الراقية، أرضية بمرمر، لو كنت بلقيس لكشفت عن ساقي، نا فورة ماء تتوسط البهو، وجنبات الجدران من زليج بلدي أصيل.أما الفتحة المدخل القديم فأصبح بابا بمصراعين.وأما الضريح فمن زليج أبيض براق غطي بزارابي خضراء،تتدلى أهدابها على الجنبات، كتبت عليها آيات بينات من الذكر الحكيم.أما السقف فمن جبس برسوم بديعة ونقوش أخاذة،بداخلها نقشت ىيات كريمة. وإلى اليمين وخارج البهو كوخ، عافه الدهر وما عاد يطمع في الأكل منه، بني بالحجارة والطين المخلوط بالطين، نعم طين مسلح بسلاح تقليدي منخور لم يعد يقوى على حجب الحجارة التي غادر الكثير منها أماكنها تحت ثقل السنين. أما فتحته يجلس رجل كهل يبدو من أسفل عمامته أن الشيب غزا مفرقه وأخذ يكتسح مساحة الرأس والوجه معا. يجلس إلى مائدة حديدية ثلاثية القوائم.وضعت عليها بعض رزم الشمع كاملة، وأخرى منثورة. يبيعها للزائرات نهارا تهديها للولي الصالح لأن إشعالها من طرفهن ممنوع حفاظا على سلامة الضريح من الحريق والدخان. ويجمعها هذا الرجل المشرف مساء، فالضريح منار بثريا كهربائيا ليستضيئ ويبيع منها للزائرات.فهو لا يتقاضى أجرا على خدمته.
راعني ما رأيت من أمر الضريح والمشرف عليه.لكن لما سمعت منبه سيارتني أسرعت للالتحاق بالعائلة حتى ندخل إلى البيت...في نفس المساء عدت مع إحدى بنات عمتي وكانت هي أيضا ممن ارتدن هذه الثانوية.
ــ ألم تلاحظي أن الاعتناء بالأموات وليس كل الموات أفضل من الاعتناء بالأحياء وليس كل الأحياء بالطبع، أنظري وقارني مقام الولي الصالح، وبيت المشرف على الضريح، الميت يقطن قصرا والحي يقطن موتا
ــ عادي فللميت زوار يقصدونه يوميا، ومن باب إكرام الضيف لا بد من السهر على راحته، أما الحي فلا يزوره أحد وخاصة من السواح الجانب، واعتقد أن هذه المفارقات الصارخة هي ما يدر علينا العملات الصعبة..
ـ يطعم الميت، تذبح له القربان وكم يحب لحم الديك الأسود رغم أنه لا يأكل، ويبقى الطعام ملقى أن مطهوا وإن نيئا أمامه،
ـ لاحظت أن الولي الصالح لا يقدم له مشروب ولا فواكه أعتقد أن في ذلك حكمة لا يعلمها إلا الأولياء الصالحون.
ـ هذا الطعام الذي يعافه الميت لا حق فيه للحي حتى تهجم عليه الحموضة.
ــ أجل ينتظر حتى يتناوله طعاما ودواء في نفس الوقت؛ أقصد مضاد حيوي يعني "بينيسيلين"
اقتربن معا من الرجل الجالس القرفصاء خلف المائدة مدنا بالشمع، أعطيته ورقة نقدية، جمع بعض القطع، وقبل ان يمد يمناه نحوي قلت:احتفظ به، رد يده إلى اسفل الطاولة، ويبدو أنه نسي أن يشكر أم يدعو لي، فبادرته.
ـ قل ياعم، أتقطن هنا أم هناك؟ مشيرة على التوالي إلى الكوخ ثم الضريح.
ارتبك الرجل، ولعله قال لنفسه: أهذه الآنسة من كوكب آخر؟ حملق في طويلا ثم علت شفتيه ابتسامة مقهور ذابلة. فنبس:
ــ عشت طيلة حياتي في هذا القبر...
باغتته سعاد:
ــ لقد تم ترميم الضريح لماذا لم ترغم الجهة المسؤولة على ترميم الكوخ ليصبح كنا لائقا؟
أطبق الشفة العليا على السفلى ثم فكهما محدثا طرطقة، تعبر عن حمولة صدر تراكمت أمدا طويلا
ــ اله إجيبك على خير، شكون أنا حتى يبنو لي الدار واش قايد ولا رايس، ولا ولي الله.؟
هل أدلك على ما قوبلت به لما كانت الأشغال قائمة وطالبت بإصلاح الكوخ؟
إذا كان هذا لا يزعجك..
ــ قد سألوني عن هويتي، فأجبتهم أني إبن فلان الذي خدم الضريح طيلة حياته....وجدي الأكبر عاش خادما لهذا الولي الصالح في حياته...أتدرين ماذا قال السيد المسؤول؟
ــ لقد كان جدك الأكبر خادما، وكان سليلهم خداما، وها أنت خادم، ومتى تساوى الخدم والأسياد، يظل السيد سيدا حيا أو ميتا ويظل الخادم خادما لكي تستمر الحياة.