تفتح عينيها المثقلتين..قبل ساعة من صلاة الفجر..تهض من على سريرها.. تسير في عتمة الغرفة.. تبحث عن علبة ثقاب لتشعل بها ما تبقى من شمعة حياتها.. تمشي في ترو و حذر، حتى لا تصدر صوتا و توقظ أولادها الخمس النائمين على الأرض في غرفتها الصّغيرة التي لا تملك سواها.. بعد محاولات كثيرة و عثرات متتالية.. تصل أخيرا إلى مكان علبة الثقاب..تفتح درج طاولة صغيرة أمام باب الحجرة.. تمد يدها و تأخذ علبة الثّقاب..و بيد أخرى تمسك الشّمعة و تشعلها.
تنظر إلى أولادها الغارقين في سبات عميق.. كل واحد جانب الآخر.. كلّهم صبيان.. تبقى كذلك واقفة..جامدة دون حراك..تتأمّلهم قبل أن تغرورق عيونها بالدموع.. ثم تضع الشّمعة على الطاولة..و تقترب من أولادها..تضع على جبهة كل واحد منهم قبلة خفيفة..ثم تأخذ حذاءها الرّث.. و تفتح باب الغرفة في هدوء و تخرج.. تقف عند عتبة الباب و هي تمسك الحذاء بيد و قفل الباب بيد أخرى.. تتأمل أولادها مرّة أخرى و كأنها تودّعهم آخر وداع.. تضع الحذاء على الأرض و تمرّر قدميها فيهما ترفع رأسها و تبتسم و هي ترمق أولادها و كأنها تعطي وعدا لهم.. قبل أن توصد الباب.
تمسح دموعها..التي بدأت تنهمل من مآقيها كالطوفان.. تمشي بضع خطوات في عتمة الشارع..قبل أن تسمع صوت آذان صلاة الفجر..ثم تواصل سيرها بخطوات سريعة.. تلتفت من حين لآخر إلى الخلف، و تتوقّف عند أول منزل تصادفه في طريقها تنظر عبر النافذة..تبقى للحظات تترقّب المكان..قبل أن تدق..بعد هنيهة يفتح الباب.. تخرج امرأة عجوز من المنزل.. و تقول بصوت عال في غضب شديد..
_ما الذي تفعلينه هنا يا امرأة..ألا تخجلين من نفسك..؟
تنزل عينيها في خجل و تقول بصوت خافت مليء بالخوف
آسفة سيّدتي..لكن للضرورة أحكام.
أي ضرورة هذه تجبرك على دق أبواب الناس في مثل هذا الوقت..؟
أعلم أنه عيب و عار لامرأة في مثل سنّي..لكنّي تركت أولادي في المنزل وحدهم و خرجت للبحث عن والدهم الذي غادر المنزل و لم يعد منذ أسابيع.
أين تبحثين عنه يا امرأة.. في بيوت النّاس.. عودي إلى منزلك و انتظري عودته هناك مع أولادك.
لا يمكنني الانتظار أكثر.. الحياة مرّة.. و الصبر نفذ منّي.
و هل تعرفين أين ذهب عند خروجه.. هل يعمل..؟
_أجل.. يعمل نجارا عند سي عمر.. هل تعرفينه..؟
كلّا..أنا امرأة عجوز كما ترين و أعيش وحدي هنا.. سيري إلى نهاية الشارع سوف تجدين منزلا آخر..اسأليهم ربّما تعرفين مصير زوجك.
تواصل السير بخطى ثقيلة..و أمل ضئيل بعد المحادثة التي جمعتها مع العجوز. لكنها لم تستسلم.. أخيرا وصلت إلى نهاية الشارع..تتوقّف عند منزل آخر.. تتنهّد تنهيدة عميقة.. ثم تدق الباب..يخرج رجل من المنزل.. يتأمّلها في ذهول و يقول و هو يمد يده إلى جيبه و يخرج مالا و يقدّمها إليها..
هذا ما أملكه و لا تعودي أبدا إلى هنا..أنتم لا تستحون أبدا.
تنزل عينيها في خجل مرّة أخرى و تقول
آسفة سيّدي أنا لم آتي للتّسول و لا بحاجة إلى أي شيء.. فقط أبحث عن زوجي الغائب.. الأولاد يثقلون علي بالسّؤال عنه.. ينامون و ينهضون على السّؤال.. بات في أحلامهم و يقينهم.
و أنا هل أعرف زوجك..؟
_لست أدري فهو يعمل في منجرة سي عمر.
أنا اشتريت المنجرة منذ أسبوعين..بعد وفاة سي عمر، فمن يكون زوجك..؟
سي عبد الرّحمان..
أعرفه..لكنه لم يأتي إلى المنجرة منذ عشرة أيام.. و استغربت الأمر أيضا
أين يمكنه أن يكون إذا..؟ تنزل من عينيها دمعة.. ثم تغادر.. مواصلة سيرها و قد بدأت خيوط الشمس تنير الشارع..
تواصل الطريق و هي شاردة الذهن.. تسأل كل من تلتقيه في الشارع.. و تدق على كل باب تصادفه..
لكن لا خبر عليه.. و أخذ التفكير بها إلى تصويره ميّتا.. أو قتل.. كل الأفكار راودتها و بعد فترة أحسّت بإرهاق شديد.. قرّرت أخذ قسط من الرّاحة بالجلوس على صخرة في منتصف الشارع.. تمسك رأسها بيديها و تنهمل مآقيها بالدّموع.. تفكّر في كيفية إيصال خبر احتمال وفاة زوجها لأولادها الصّغار.. ثم ترفع رأسها و تنهض من مكانها و هي في طريق العودة إلى المنزل.. تلمح من بعيد زوجها مع امرأة يسيران في الشارع و هما يتحدّثان و يضحكان.. دقات قلبها بدأت تتسارع..عيناها تلمعان بالدّموع..تجمع قواها في لحظة و تقترب منه.. ينظر إليها مذهولا و تنظر إليه و الابتسامة مرسومة على وجهها ثم تقول
بكيت كثيرا لأنك لم تعد إلى عشّك.. كانت الأفكار تجرّني دائما إلى نفس النّهاية أن تكون ميتا.. كان ذلك مخيفا.. لأن أولادي سوف يعيشون يتامى.. ويكبرون دون أن ينطقوا كلمة "أبي".. لكنّي عندما رأيتك جفّت دموعي..و استعادت شفتاي ابتسامتها.. حتى و أنك وجدت حياة أخرى بعيدا عنّا لكنّك تبقى حيّا موجودا في مكان ما من هذه الأرض..كنت أفكّر في طريقة أعلن فيها لأولادي خبر وفاتك..لكن الله رحمني من هذا العناء و أعادك إلينا..
نظر إليها زوجها باستغراب و ذهول.. و هي تواصل حديثها و تقول
أنا لا أطلب منك لا مالا و لا جاها.. فقط لا تنسى أولادك هم بحاجة لعطف والدهم.. و أعدك أن أعوّد نفسي و روحي التي وهبتها لك و عهدتها إليك على الصّبر و الحرمان و تبقى والد أولادي الذين هم نور عيني و شمسي التي لا تغيب أبدا.
و قبل أن تغادر تاركة زوجها شاردا و زوجته الأخرى مذهولة..تقول و الابتسامة ما تزال تملأ شفتيها
أتمنى أن تجد للحياة طعما ألذّ و للعشرة مذاقا حلوا و طيبا..
تعود أدراجها إلى المنزل.. حيث تجد أولادها جالسين أمام باب الغرفة..ينتظرون عودتها..تنظر إليهم و هي تبتسم.. ساروا إليها مسرعين لاحتضانها و هم يضحكون دون معرفة ما تخفيه تلك الابتسامة المرسومة على وجه والدتهم.