قال المعلمُ لتلاميذه: أريدُ حواراً مبنياً على أسئلة دون جواب؟
قال الأول وبدون إذن: ما الفائدة من سؤالٍ دون جواب؟
وصعد فؤاد إلى الطاولة وقال: هل تفيدنا يا أستاذ وتشرحُ لنا ما جدوى هذا الكلام؟
ومسك مروان يد زميله وأنزلها ليرفع يده ويقول: إذا كنتَ لا تعرفُ إجابتها ولا تقدرُ عليها فلماذا تسألنا؟
ثائرٌ أخذَ حقهُ بالدور وقال: بالمرَّة السابقة سألتُ والدي ووالدتي عن سبب وجودي. فلماذا ضَرَبني
والدي ووبَّختني أمي؟ ولماذا تهرَّبْتَ من آخر سؤالٍ؟ وهل عرفْتَهُ؟ إنَّهُ متى يَشعُرَ المرءُ بحقهِ في الحياةِ؟
ومحمَّد الأذعر قال: يا أستاذ ! سأسألك ولك علبة دخان وقدّاحة إذا عرفتَ الإجابة؟ ما آخر أغنية غنتها هيفا وهبي؟ وما أعلى أجرٍ لها..؟
نهضَ الجميع فقال الأستاذُ لهم: لماذا لم تتعلموا أصولَ الحوار؟ ولماذا تلحُّون بأسئلتكم؟ قال الجميع: هل تقدِرُ على إجابتنا؟ من قال لك إننا أغبياء وصغار؟؟.
وفجأة فُتِحَ بابُ القسم ودخل المديرُ وشخصٌ عابسٌ آخر
ماذا تقولُ للطلابِ؟ وماذا قالوا لك؟ وإلى أين تريدُ الوصولَ من هذه الأسئلة؟.
زيارة للطبيب المحترم
بعد جهد وانتظار وصلْنا عيادته.. الموعد مسبق.. سمعته سبقته.. أشادَ به الكثيرون.. بنظامه وخلقهِ ودقَة معاينته ولطفِ معاملته مع ممرِّضته.
في الوقت المحدّد.. كنا في العيادة. الانتظار طال.. تضايقنا كغيرنا حاولتُ إشعال سيكارة قالت الممرضة وبحزم الدخان ممنوع يا سيّد.. استجبت لها مكرها وبشيء من الخجل.
أخيراً دخل الطبيب مسرعاً.. سيكارتهُ بفمهِ.. أعدَّت الممرضة المرضى واحداً تلو الآخر.
رحَّبَ بمريضنا.. كشف عن صدره وظهره.. حاوره.. ضحك معه.. كتب الدواء.. وهو خارج من غرفة المعاينة قال له الطبيب الذي أشعل سيكارته وأخذ نفساً عميقاً
احذ ر الدخان.. سيقتلك.. ابتعدْ عنه.. إذا لم تحاربه قتلك ,إنها لعينة يا عمّ..
آخر نظرةٍ إليه كانت مصحوبة بكلمة شكراً أيها الناصح.. التدخين يقتلني ولا يقتلك..
ضحكت الجدران والسماعة وميزان الضغط وابتسم الصيدلي وحفار القبور..
قدوة صالحة
في البيت قسا عليه أبوه.. لحقته أمُّهُ قائلةً: ياشقي.. تدخَّنُ.. يا عيب.. ويا خسارة تربيتنا.. راح
ينظر.. يرسل نظراتِهِ إلى مكبّات السكائر، وعلبة الدخان التي كانت بمتناول والده.. ولم ينسَ توصيةَ أمِّهِ لوالده.. أحضرْ لي دخاني الخاص. عندي استقبال.
وفي المدرسة رفع أستاذ العلوم ِ نبرة صوته وهو يتكلم عن الأمراض الصدرية. وأضرارِ التدخين.. نظر الطلابُ إلى بعضهم، تفقَّد بعضهم علب الدخان في جيبه. والآخرون لاحقوا علبة الدخان في
جيب المدرِّس وامتنعت لغة الكلام حين أنهى المدرَّس حصَّتهُ. وسرعان ما أخرج سيكارة وأشعلها وراح ينفخ إلى الأعلى.... وفي باحة المدرسة اجتمع المدير والمدرِّسون ليسمعوا قرار فصل طالب كان يدخِّنُ في باحة المدرسة وعلى مرأى من زملائه. نظر الطالب.. ابتسم.. كرّر ابتسامته وتقدَّم من المدير وقال له: "شعلة.... شعلة من فضلك "
وأمام شاشة التلفاز وقف مدهوشاً. المسؤول الكبير في التجمّع الوطني والقومي. يشنُّ حملته المعروفة ضدَّ الامبريالية وأمريكا وإسرائيل. وراح يقول بنبرته المعهودة: علينا أن نقاطع البضائع الأمريكية بكلَّ ما أوتينا من قوّة.. وقبل أن تنسحب الكاميرا عنه كان يدخّنُ من الدخان الأمريكي الفاخر...
آخر المعارك
في الاستراحةِ الأولى أثناء سفره للاستجمام وَجَدَ أناساً لم يألفهم.. فنجان القهوة يُقدّم بهدوء وذوق
متناهٍ مع كأسِ ماء نظيف. والحساب قدِّم على ورقة خاصة، دفع وشَكَرَ وتذكَّر مقهى بلدته. وشيئاً من قهوة منزله.... في الاستراحة الثانية أخذ طاولة على مقربة من ضفة النهر،انتشرت المقاهي.. شاهد حسن استقبالٍ
ونظافةً لائقة.. وشَعَرَ باعتبارِهِ. وشاهد زوجين استرخيا معاً للأمل والحديث وتبادُلِ البسماتتذكَّرَ آخر مرةٍ جَلَسَ فيها مع زوجته. وتذكرَ لما لم تصحَبْه. وتذكّر شأن الحديقة العامةِ في قريته الكبيرة.
في آخر محطةٍ.. استسلم للتأمُّل وهو في تلك الحديقة الساحرة. طيور.. عصافير.. أطفال.. أحباب..
وأشياء أخرى. استعادَ عقوداً من الزمن رأى أولاده صغاراً وزوجتهُ صبيّة ولكنه لم يشأ إكمال المشهد.. فتح دفتر مذكراته واستسلم للتفكير. وراح يفكر بالعودة إلى مدينته وطوال طريق العودة كان يُعِدُّ نفسَهُ لمعركة جديدة بينه وبينها ألفة ووحدة حال... وكان يُتَمْتِمُ: كلُّ معاركنا خاسرة وآخرها معارك الكلام....