مرة أخرى أفاجئ القدر وأجد نفسي متسكعاً في شوارع المدينة أغازل الكأس الملعونة وأحلم وأحلم وأتيه وأكتب. أحلم بحبيبتي وأتيه عبر كهوف الكون وأكتب على صفحات جلدي وعظامي. أكتب على قنينات الخمر وآهات وأنين وصراخ الكؤوس.
أكتب على الطاولة والحائط ووجوه الزبناء المقهورين. أكتب على الأسطونات البالية التي تنخر في الذوق الحسن والتي يتمايل على أنغامها كل رواد الحانة إلا أنا. أكتب على أوراق أحلام القاصرات اللواتي أصبحن الرموز اللامعة لكل حانات البلاد وعلب لياليها.
أكتب على أجساد عجزة تقدم بهم السن وتأخر ولازالوا يرتادون الحانات لأسباب يجهلونها وتجهلها حتى الساقية التي شاخ نصف وجهها وبقي نصفه الآخر صغيراً بريئاً أقرأ فيه تقاسيم تلميذاتي والطالبات اللواتي لا منح لهن ولا عمل رغم حصولهن على شهادة الإجازة في كل شيء لا يجوز. أكتب على صفحات ذكريات أصدقاء لم أرهم منذ زمن طويل لأنهم تاهوا عبر أزقة طموحات أوصلتهم إلى قمة المتاهة والعبث. أكتب على آثار وقع أقدام أحبة غادروني ولم أعد أسمع عنهم إلا الخبر اليقين اللعين. أكتب على السبورة أسماء تلاميذي النجباء الذين إما أصبحوا ناساً مهمين ونسوني وإما فشلوا في حياتهم ونسيتهم بسرعة.
أكتب وأحلم وأشرب. أحلم بطفولتي ومراهقتي البئيسة ومرحلة الدراسة بكلية الآداب بالرباط أيام الحمق والنضال والأحلام الحمراء. أحلم بأمي التي غادرتني من غير أن تسعد و لو بهدية بسيطة مني بعد حصولي على المنحة التي كانت من نصيب الساقيات.
أحلم بسنوات كنت خلالها أصول وأجول ضد إدارة ومدير ثانوية الأيوبي بسلا التي كنت محط إعجاب كل أساتذتها وأرى نفسي اليوم وحيدا بإعدادية بن عباد بعض أساتذتها كانوا تلاميذي أصبحوا زملاء عمل يحاجونني في معلوماتي بل منهم من يقاطعني متهماً إياي بالعمالة للإدارة.
أحلم وأكتب وأتيه وأنا أشرب فأجد نفسي ملكاً متوجاً بالإجماع على جزيرة بنيتها بسواعدي وعرقي وريقي. أتيه فأجد نفسي أجول بين سحب سمائي ونجومها لا هم لي إلا بياض سريرتي ونقاوة سريري واختياراتي. أتيه عبر واحات غرست نخيلها وفجرت ينابيع مائها بعمق إيماني بنفسي وبأصول والدي النقيين..أتيه وسط بحار أنا الآمر الوحيد لأمواجها وسفنها.
أتيه بين أنهار أعرف منابعها ومسيرة من يحلم على ضفافها لأني موجهها الوحيد والحارس الأمين على سر وعظمة خريرها واتجاهاتها.
أتيه وأتيه ولا يخيفني التيه لأن لي موعدا مع راية السماء تحملها العصافير والملائكة. لي موعد مع صخرة تحملها الورود وملكة النحل.
أتيه ولا يخيفني التيه لأني في نهاية طريقي سأجد أفواجا من الفراشات وأسرابا من الحوريات يرددن مع العصافير والملائكة والصخر ومع كل مكونات هذا الكون: الله الواحد الأحد لا شريك له.
أعود لمغازلة الخمرة البئيسة الخبيثة الشريرة بعد أن أصبحت عاشقاً للصلاة والصوم والشهادة المقدسة. أعود إليها بعد أن أصبحت جبهتي تحمل على بساطها اسم الله ورسوله و بعد أن أصبحت لا يهدأ لي بال حتى أكون في الصف الأول من المصلين.
أعود إليها الكلبة بنت الكلب بعد أن أصبحت أردد نفس اللحن ونفس الأغنية ونفس القصيدة: أشهد ألا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله. أعود إلى أم الخبائث بعد أن أصبحت من عشاق أم الخيرات والتقرب إلى الله: الصلاة و لاشيء غير الصلاة. أعود إلى المشروب المجوسي بعد أن أصبحت مسلماً مؤمناً يتعجب رفاق دربي من إيماني وتعلقي بأهداب السحب والنجوم والسماء. أعود إلى الخمرة التي رائحتها أخبث من العرق الذي يرقص تحت إبطي الحمير والبغال بعد أن ألفت تلك الرائحة الزكية التي أشمها وقت الصلاة. أعود مكبلا إلى قعر الكأس بعد أن تحررت بفضل اختيار الملائكة لي. أعود إلى الخمرة وأنا أعرف أن الملائكة يعاتبونني في سرهم ويحاولون تغطية خطأي وخطيئتي أمام الله تعالى. أعود إلى الخمرة المتسخة وأنا خارج لتوي من نهر الكوثر حيث اغتسلت وغسلت روحي.
أعود إلى الخمرة ولا شيء يدفعني نحوها لأني أصبحت متزنا سعيداً منذ اليوم الذي أصبحت فيه البلابل لا تؤذن إلا بعد أن تحط على قلبي للاطمئنان على إيماني. أعود إلى الخمرة وأنا جد حزين لأني لا أعرف كيف سأقف أمام الله وقت الصلاة والحساب، وأنا واع أني أرتكب خطأ آخر وأخيب ظن ملائكة الرحمن، وأنا أعلم أن الصحابة سيحزنون وسوف لن يجدوا تبريراً لشرح جبني وضعفي، وأنا متيقن أن أزهار شرفتي سترفض التزين حداداً علي وعلى تهافتي العبثي، وأنا أعرف أن حتى قطط الحانات وفئرانها تدعو لي أثناء صلواتها بالتوبة والغفران، وأنا أصيح: ماذا وقع لي يا رب، حتى أفتح باب الجحيم والخبائث من جديد؟
أعود إلى الخمرة ولا عذر لي ولا تبرير، فقد جاءني الهدهد من أعالي السماء ووضع في قلبي وروحي شهاب الحروف والشعر ووالدي يطير فرحاً كلما رأى صورتي يجريدة" أنوال" اليسارية من 1994 الى 1996 .هذا الوالد العزيز الذي لم أره مدة عشر سنوات لأني كنت أخطط لهزم الإقطاع والإمبريالية والصهيونية. أعود إليها والملاك الذي عن يميني لا ينام إلا بعد أن يطمئن علي ويسكب ماء الورد على قلبي وجبهتي.
أعود إليك أيتها الملعونة وأنا أعرف والكل يعرف وأنت تعرفين أنك خربت بيوتاً وأعشاشا. أعود إليك أيتها الخبيثة وأنا أبكي لأني أعرف أن العود ليس محموداً. أعود إليك ولا شفيع لي أمام الله إلا الرسول الأعظم.
أعود إليك و أنا أعرف ألا حل لي ولا شفيع إلا رسول الله، وأنا أعرف ألا أحد يمكنه التدخل لدى الله تعالى إلا رسوله محمد. فيا رسول الله، إني أقبل رجليك وظلك، أقبل عباءتك وبردتك وباب مسجدك، أقبل كل حفنة من تراب مشيت عليه. أقبل العرق الذي يهطل من جبينك وأنت تدعو الناس للدخول إلى الاسلام، أقبل كل شعرة من شعرك الجميل، أقبل خديك و يديك و صدرك وحاجبيك ورموش عينيك. أقبل كبش عيدك وتمر رمضانك وحليبه و ماء أصابعك. أقبل ابتسامات أحفادك ونخيل واحاتهم.
يا رسول الله، كن لي شفيعاً أمام الله ليغفر لي و يمحو ذنوبي، كن لي أباً حنوناً أمامه تعالى فإني أخجل من الوقوف أمامه. كن لي حليفاً وآزرني. كن لي خير محام أمام محكمة الله جل جلاله.
يا رسول الله، لا تتركني أعزل واشهد لصالحي يا خير نبي وأعدل قاض وأصدق شاهد. يا رسول الله خذلتك فلا تخذلني وأحرجتك فلا تحرجني أمام الله. يا رسول الله، ثقت بي فخنت الأمانة وفتحت لي ذراعيك الشريفتين، فعانقتك ثم عانقت الشيطان فلا تؤاخذني إني ابنك فارض عني.
يا رسول الله، لقد تجاوزت حدودي، وتماديت في خطئي وغيي ونكثت العهد فلا تلعني فإني له تعالى ثم لك من المحبين المتيمين. أصبحت لئيماً وتنكرت لدعوتك ولميثاق الله فلا تؤاخذني ولا تعدني من القوم الفاسقين لأن حبي لله موشوم في عظامي وأعماق قلبي.
كتب في خريف 1998