في كل مرّة تجيء (أميرة) إلى «بار العجزة» تتهلّل وجوه الحاضرين فرحاً، ويقوم البعض منهم لتقبيل يدها ولمعانقتها، ويفرغون لها أحسن المجالس، ويتجمهرون حولها؛ فتبدأ الطلبات.
ل(أميرة) وجه ملاك تفيض منه النعمة، وجسد ممتلئ بالأحاسيس الرقيقة، وفم عريض يتسِّع لثمان قبلات سيراً من اليمبن إلى اليسار وسبعة في عكس هذا المسار، وكلام حلو يقطر منه كالعسل من الشهد. أحيان يفيض الكلام العسلي من فيها ليغرق عبيدَها من المعجبين، فتراهم كالذباب المتخبط في حلاوة لم يعهدها من قبل.
الوحيد الذي لا يقوم لها هو (العمدة) سيد المكان. يبقى وقوراً في مجلسِه وهادئاً داخل (غندورته)1 ومتوحِّدا مع ما يدور في رأسِه. بالكاد يمدُّ إليها فمَه لقبلة خفيفة في مهوى قرطِها. وهي ـ من الأدب ـ تصدر صوتَ التقبيل في الخواء لكي لا (تعكِّرَ) فمَه أو لباسَه.
ل(أميرة) طليق وأطفال كبار وأم أنهكتها حصص تصفية الدم، وقلب كبير يسع مظلومي العالم بأسره. هي ليستْ منهنّ؛ هي مثقفة، فنانة، طموحة، ومقاتلة:«من أجل شرفي أقاتل حتى الموت» تقول.
يبدأ (العمدة) في تعيين المجالس للمتجمهرين حول (أميرة): ـ أنتَ هنا، وأنتَ هناك، وأنتِ هنالك، وأنتِ... أيّها المدير؛ أخرج هذه من هنا، إنّها لصّة تسرق أموال المواطنين، وذاكَ لم يعد في وعيه، اجعله يشرب قهوة سوداء من دون سكر وببعض الليمون... الكلّ يحترم (العمدة) ويقدّره. حتى الروائي (م.أ) يقدّره ويفسح له مجلسَه. فهو ليس كعُمدات مصر الأمّيين (كما تصورهم لنا الأفلام)؛ هو عالم متمكّن من الرياضيات وفلسفتِها، وطموحُه بعيد جدّاً عن أوهام الملكيات والانتخابات. طموحُه قلبٌ يحبُّه وصديق يحترمه ولا يخذله وأن يعُمَّ العقل المتحرّر جميع الناس. (العمدة) لا يؤمن. (العمدة) يؤمن بضرورة التحرر من الفقر والجهل والخوف ومن الإيمان الأجوف والسلطة والتسلُّط.
يجيء (صديقه) (ط) متمايلا قادماً من «مسراطة»2 . في الحين يشرع في توبيخه: ـ ألم أقل لكَ مرارا بأن لا تزعجني بعد العاشرة ليلا؟ هل أنتَ أحمق أم ماذا؟ تصرف نقودَك على بنات الهوى ثم تُفيقُني لكي أجيء وأدفع عنك... يلوي (ط) رأسه ويخرج وذُلُّ التوبيخ يكسوه. يلتفتُ (العمدة) إلى (أميرة) ويقول لـِ (أ): ـ هاهي ذي تخبرك عن الفضائح التي يجلبها لي هذا «المصيبة». تتحرّج (أميرة) من الإخبار وتكتفي بابتسامة.
لكنه صديقك يا عمدة. يقول (أ).
آسيدي، إذا كانت الصداقة بحال هادي، بالناقص. يردّ.
ولكنّه سخيٌّ معك. أخبرني للتو أنّه جلبَ لك حمولةً من البرتقال... لـِ (أميرة):
هيهْ! ألم أقل لك بأنّه يمنُّ عليََّ؟ يعطيني بضعة حبات البرتقال ويخبر آكادير كلَّها بذلك... تدخل (م) (مولاة البزازل)3 ، تقبّل الجميع وتسأل عن (ط). (م) (مغرمة) بـِ (ط) وتسافر وراءه أينما ذهب لكي تفرغ جيوبه من المال؛ و(ط) مغرمٌ بنهديها العظيمين. يُجلسُها جنبَه ولا يتوقّف عن دعكهما إلاَّ أن تبدأ في الصراخ من الألم. آنذاك ينادي على الجرسون رقم 1:
هاتها قنينة نبيذ... وذلك من مالي الخاص. فتلينُ (م) وتقول له:
ـ والله يا أخي (ط) إنّك تؤلمني.
مرّة طاردته عبر عشرين حانة وفندق حتى طلع النهار ولم تجد له أثرا. الجميع يعلم أنّه مختبئٌ في حفرة مّا. من أين له أن يذهب إلى زوجته ونحن نعلم أنها شديدة عليه وتمنعه منعاً كلِّياً أن يطأ بيتها إذا هو مثل المخاط من فرط الشرب. حكتْ (م) أنّ (ط) مُصابٌ بمرض الكذب وقالت:«... كلُّ ما حكى لكم عن زوجته المقعدة، وثراءَه الخاص، وأخيه، وأطفاله، وأساتذته... كذِب في كذب». ثم انصرفتْ بحثاً عنه. في ذلك اليوم، أبتِ الشمس ألاّ تغرب. استمرّتْ تشاهد ما يجري في «بار العجزة» ـ من خلال بوابته ـ حتى التاسعة مساءً. (ل) كانت هناك في جناح «غوانتانامو» تقرأ كتاباً. هي الأخرى مثقفة ورقيقة، ولحمها مثل الزبدة. تتكلّم بلكنة تونسية وهي مغربية. من لا يعرفها يعتقد أنها ـ فعلا ـ من تونس. هذا أسلوبها: اللكنة والكتب. حينما غاب (أ) عن (ح) صاحبتِه الملوّنة والملقّبة بـِ (المعزة)، أجلس (أ) (ل) لصقَه فوجدها بالذكاء والدهاء اللذين لا يمكن وجودُهما في رجل سياسة. ومنهما سألته: ـ أين هي صاحبتُك مولاة الباروكا السوداء؟ فأجابها: ـ ذهبت إلى الجحيم. ـ كيف ذلك؟ ـ ألا تعرفين بأنها و(م) (الصفريطة العظمية4) كادتا لي عندما ذهبتا بي إلى بيت إحدى (الشالوطيات5 )؟ ـ الجميع يقول بأنّها خسرتك. ـ هذا لا يهمُّني. (ح) زنجية فاتنة. تقول إنّها في التاسعة عشر؛ وإنّ أباها (زوج أمِّها) عميد شرطة، وإنّ أمّها فنانة. بسبب هذه (الأقوال) اكتسبتْ تفوُّقاً على جميع (بنات) «بار العجزة». (س) متقاعد بترواْ رجله بسبب السرطان، و(زوجتُه البارية5) (ث) ما انفكّتْ تنهيه عن التهام السجائر والشرب حتى ثمالة الثمالة. لما بتروه؛ غابتْ. في «بار العجزة» أكثر من مرض:الكذب، الإدمان، الهروب من الواقع، الاحتلام، الهوس، الكراهية الدفينة ضدَّ الرجال أو ضدّ النساء، الحلم بواقع أفضل، السكري، الضغط الدموي، الكِلى، الإبصار، الهبوط النفسي، البارانويا، السحر والشعوذة، السياسة، الكفر... لهذه الأمراض سمّى (أ) (بار البرج الذهبي) بـِ «بار العجزة». عندما استأذنتنا الشمسُ لكي تغيب، دلف (ر) وفي يده رواية لـِ (لنا عبد الرحمان). قبّل الإناث والذكور، وجلس لصق (أ) وقال له:
اقرأ هذه الرواية وأخبرني عنها.
في الوقت ذاته دخلتْ (ع) (مادونا) و(س) العصبية اللطيفة وأغدقتا على الحاضرين القُبل. (ع) محبوبة، لكنّها تهيج عندما يبلغ «مِكحالُها6» الـ (%45) درجة؛ تصير عنيفة وتلكم بيدها ذات الأصابع القصيرة. طفحتْ كالعادة، ودخلت «التواليت» فأبى القفل أن ينفتح لها. آنذاك تمَّ الاستنجادُ بالسيد (م) المتقاعد عن مهنة الإطفاء. ركّبَ رقماً، فجاء رجال الإطفاء فوراً للإنقاذ. افترعواْ الباب، فوجودها عارية جالسة نائمة على العرش. هي الأخرى طليقة ولها أطفال. وعندما اشتغلتْ عند أحد النصارى، فاضت عليها النعمة وصارتْ تبدو كبقرة مدكوكة؛ حتى أنّك لن تستطيع التمييز بين عنقها وصدرها وبطنها؛ وأمّا خصرُها فلقد اختفى. (ر) شاعر وروائي وآية في اللطف. ألّف روايةً حمقاء وأهدى نسخة منها لـِ (أ). الرواية مستوحاة من «حيّ بن يقضان» لابن طُفيل، ولكنّ السردَ فيها يتجاوز كلّ فلسفة. ما هذه الرواية التي تتحدّث عن (شجرة تدخن الكيف7)؟ وعن (غوريلا تشرب الخمر) وعن (كلب اسمه شمروخ يصطاد طرائد وهمية)...
الظاهر أنّ «بار العجزة» أتلفَ عقلَك. قال له (أ) مازحاً.
الظاهر أنّ «بار العجزة» أصلحَ عقلي. عقّب (ر) جادّاً. ليس لـِ (ر) صديقة بهذا المعنى، بيد أنّ له (كارثة) اسمها (س) تعتبره (رجُلَها) وتُعنِّف كلّ من حاولت الجلوس بجنبه أو الاقتراب منه. إلى أن يئستْ منه وانهالت عليه بشتائم ظالمة. آنذاك (طلَّقها) فما عادتْ تجيءُ إلى دار العجزة.
(ر) لا ينام مع البنات.
(ر) نام معي أنا. تقول (الكارثة).
(ر) لا ينام مع البنات. قال الجميع. شخصٌ يسمّونه (المعذّب) شرع يصفعُ نفسَه كالعادة عندما يبلغ البيرة رقم 8. وفتاة جديدة خرجتْ من «غوانتانامو» يتبعُها (رجُلُها). شدّها من يدها وقال:
يا سامي (اسمها سامية)... يا سامي، الْعَني الشيطانَ وتوبي إلى مجلسِك! أنا لم أفعل ما يستحقُّ غضبَك...
بل فعلت... لماذا قبّلْتَ تلكَ الفاسدة في فمِها؟ وعلا صوتُ:
هل تريدين أن يقبّلَها في (ظهرها)؟ الرجل غريب عن الدار. لأوّل مرّة رأوه هنا. طويل وأصلع. سبُعٌ وضبُع. وها هو خارج وهي تتبعه، وها هي داخلة وهو يتبعها. دخول. خروج. خروج. دخول... تحوّل بهو «بار العجزة» إلى ركح مسرحي و«غوانتانامو» إلى كواليس.
لهذا آتي إلى هنا. قال (أ) لـِ (ر) و(العمدة).
هذا المكانُ ملجأ ومقامٌ ونوعٌ من الكنيسة. البوح فيه سهل ومقبول. وذكر الله فيه لا ينقطع. فلنسأل (ح) الشاب الذي لا يتكلّم إلاّ بسورة أو آية أو حديث صحيح. الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة يفضحها وينشرها. يقول:«إذا أردتَ للإسرائيليات أن تختفي، انشرها».
حديثان يستوجبا الحظر: حديث الدين وحديث السياسة. المكان للشرب، للنسيان، للتناسي، للبنات، للمتاجرة، لكرة القدم، لِلوصفات الطبية الشعبية، لوصفات الطبخ، لإبراز الذات، لكلّ شيء عدا الله والملك. لهذا السبب يلتفتُ (العمدةُ) وصِحابُه وصاحباتُهم عن كلام (ح). كلامُ (ح) يطيِّر الشراب من الرؤوس. والصحوُ منبوذ في هذا المكان، إلاّ أن يكون صوفياً.
قريباً من الثانية عشرة ليلا، سُمِعَ دويُّ صفعة من «التواليت». الصفعة كانت بالقوّة التي جعلتْ السيارات المركونة أمام «بار العجزة» تصفِّر كما لو أتاها لصوص. ماذا هناك؟ (أ) صفع زبوناً غير معترف به لكونه هدّده بالقتل إن هو لم يفترق عن (س) الأفعوانية. القصة هكذا: كانت (س) جالسة إلى طاولة الغريب وعليها شراب لا تشرب منه، فأرسل لها (أ) بيرتين... هذا ما كان. بعد (الصفعة) التاريخية لم تظهر (س). وفي «غوانتانامو» شرع أحدُ الأقزام يرقص على أغنية لـِ (ناس الغيوان) [... دقّة تابعة دقّة... شكون لّي يحل الباب...8] مع بنت أطول منه بضعفين.
ساعتَها أطلّتْ الشمسُ من جديد. كانت تريد أن تنام في غروبها، ولكنّ ما يحدث في «بار العجزة» يؤجّل نومَها. تريد أن ترى، تريد أن تعرف... الكلام لا ينتهي والحياة كفيلم قصير.
الهوامش:
1 ـ لباس مغربي.
2 ـ لقب فندق تالبورجْت، بسبب قذائف القناني.
3 ـ ذات النهود.
4 ـ المرأة الباهتة ذات البشرة الصفراء.
5 ـ البارية، نسبة إلى (البار) أي الحانة.
6 ـ آلة قياس درجة الكحول.
7 ـ (الكيف) اسم حشيش القنب الهندي في المغرب.
8 ـ طرقة تلي طرقة ... من يفتح الباب؟