في عمق الدجى الكحيل الأعين، حيث أسدل الليل ستاره الأسود، وأنار الأفق بنجومه وأجرامه، جلست كعادتي في شرفة المنزل، أتأمل في شكل النجوم والقمر الذي كانت لي معه حكاية غريبة، لا تلبث أن تعود بي إلى أيام الطفولة، والعبث، والابتسامة الواسعة.
كانت الشمس تتوارى للرحيل، لتختفي خلف أكوام الفوسفات المتراكمة كالجبال البيضاء، كنا قد انتهينا من جمع الأمتعة، نظرت إلى السماء، وأنا أتأمل في زخرفة الألوان، وقد تدرجت في رسم مثير، وجسدت في الأفق إبداع جميل حملني لعالم آخر، فتمنيت لو أني اخترقت تلك الصور الرائعة.
كنت أدرك أن ساعاتنا بالمدينة صارت قليلة، وأني سأفقد كل هذا الجمال، وسأترك ذكرياتي وطفولتي بين تلك الأزقة والشوارع، وسأترك معهم صديقتي الوحيدة، لم أعرف لماذا عندما أتذكرها أشعر بالبكاء، لكنني أدرك جيدا أني لن أراها، ولن نلتقي ثانية، وقد حرمت من فرصة توديعها، لتبقى ذكرها في قلبي ندبا مؤلما.
كانت صديقتي فتاة جميلة ولطيفة، وكثيرا ما رافقتني في دراستي، ولعبي، ولاحقت معي الفراشات المزركشة، والعصافير الصغيرة، وغرسنا الأعشاب والأزهار معا، حتى عربات السيرك ركبنا فيها معا، كنا كظلين لا نفترق أبدا، كان والدي يسافر كثيرا، لم أكن أره إلا أيام قلائل، وأحيانا كنت أنسى صورته، ولا يبقى بخيالي غير أطياف جامدة، فأفكر في عمله طويلا، وأتساءل كيف يغيب عنا، وكيف يجعلنا نعيش لحظات الوداع في كل مرة، إني أتذكر جيدا صورة أختي الصغرى وهي تتعلق بثيابه وتبكي، بينما يحمل حقيبته ويغادر حتى يختفي عن أبصارنا.
نادني والدي بقوة فنظرت إليه فقال: »هيا يا عائشة، اصعدي إلى السيارة رفقة أخواتك، فسنرحل بعد لحظات«،فمشيت ببطء شديد، وأنا أتأمل جدران بيتنا، ومباني حينا، وأحدق في وجوه الجيران الغارقة في الشجن، وقد ترقرقت عيونهم من الدمع، صعدت إلى السيارة كان الظلام حينها يكاد يخيم على المكان، ومقلتي تكاد تنفجر من مرارة الدمع المسجون في ثناياها، كنت أحس برغبة في البكاء، رفعت بصري عاليا وبدأت أرنو إلى النجوم، محاولة معاندة الحزن والانكسار.
سجنت دموعي طويلا، وأبيت أن أحررهم، وقد غمرتني كآبة رهيبة، ورغبة دفينة، في إيقاف المنبه وحمل الشوارع والأزقة بين كفوفي، تمنيت لو أستطيع حمل المدينة فوق شاحنة عملاقة، مادم أبي يصر بنا على تركها، لكن ما أروعها من أحلام وأتعس لحظات الوداع، كان القمر حينها ينظر إلي، وأنا مستغرقة في تفكيري، لأبدا في استعراض ذكرياتي على نوره، فأتذكر أسد البحيرة، وأشجار النخيل العملاقة، وثمار البلح المتساقطة، وحبات التين، والحي الأوربي، وتلك الأيام الرائعة التي قضينها في المواسم الصيفية، وألعاب السيرك، و...
توقفنا فجأة في مدينة أبي جعد، نظرت إلى القمر فإذا هو شجين مثل أعيني، وإذا هو يبكي، بدأت الأمطار تهطل بشدة، بينما هو يطل من علوه، أحسست أنه أقوى مني بدموعه، وأنا لا أستطيع البكاء، لكنه اقترب مني وبدأ يكبر شيئا، فشيئا، حتى أصبحت أراه واضحا، وهو يشع نور و جمال، كان يبدو الليل المحيط به وكأنه سوالف مفتولة، كنت أنظر إليه لأجده قد تحول إلى رسم أدمي يشبه في ملامحه صورة صديقتي، كان يبكي، سألته لكنه فقط كان يبكي، حاولت الاقتراب منه لأمسك به فصدمت بشيء ما، لأفتح عيناي وقد اختفى كل شيء في لحظات.
كانت السيارة حينها قد توقفت، لينتهي ذاك المشهد الغريب وتنتهي الأحلام القديمة، فيصبح البارحة مجرد حلم، وذكرى بين دفاتر وخطوط اختلط السواد فيها بالبياض.
لم أنسى ذلك الحلم، ولا تلك الصور، وأنا أتذكر منظر القمر، وأتذكر أمطاره، التي تحملني إلى مسقط رأسي، والى ذاك الحلم الطفو لي الجميل، فأتذكره كلما ملئت أنفي رائحة أزهار الأقحوان، و ورود الدفلة، كلما تحسست نفسي حفيف الأوراق المتساقطة فوق شعري، كلما رفعت بصري إلى أشجار النخيل، كلما رأيت البحر، وتحركت بي الأمواج إلى أديم البحيرة، وأنا أجمع أوراق التوت، وحبات التين.
ومرت الأيام وأنا أشاهد ذاك الحلم، حتى ارتبط في مخيلتي بالقمر، وأنا أرى تلك اللحظات التي تكسر حدود تفكيري، وتنم عن رغبة في العودة الى مسقط رأسي، واسترجاع سطور وتواريخ ذابت وانصهرت في غياهب النسيان، ليصبح ذاك الحلم مجرد حكاية، محت الأيام معظم حروفها، ولم يبقى منها إلا شظايا أكتبها عندما يبكي القمر.