بعد حياة مليئة بالأغاني العذبة والتحليق فوق الجبال والمحيطات. بعد أن هجمت عليه زوبعة الشيخوخة وعلامات خريف لا يرحم. بعد أن أحس أن المنجل يستعد لحصد روحه المقدسة حط الطائر بين الأغصان و راح يحدث نفسه ويصغي إليها. قال والأغصان تستمع إليه والأوراق. قال وصغاره يحلقون ويغنون فوق الشمس والقمر.
قال و الدمع يسبقه ويسبقنا: بذرت حياتي في الغناء ولم أفكر يوما في إنقاذ طفلة من الاغتصاب ولا انتبهت إلى أنين الشيخ المصاب بضيق النفس والتنفس ولا أعرت صراخ المعذبين أي اهتمام.
غنيت بالليل والنهار ضانا أني أخفف عن الناس وأساهم في تغيير العالم فإذا المجرم لازال مجرما واللئيم زاد في لؤمه. غنيت طول حياتي لأذهب الحزن عن الناس فإذا هم لازالوا يئنون تحت وطأة الظلم والوحدة والقهر.
غنيت داخل القفص وخارجه. غنيت أمام الزنازين والمستشفيات. غنيت لحظة إعدام الأبرياء واحتضار الشيوخ واليتامى. غنيت ساعة الزلازل والفيضانات. غنيت كل مرة أحسست فيها أن الناس محتاجون إلى من يخفف عنهم كروبهم.. و ها أنا الآن في آخر شطر من العمر والناس هم الناس والألم هو الألم.
غنيت وغنى معي الشاعر والنسيم والقمر. غنى معي الفجر والشروق والغروب. غنت معي الغابات والوديان. غنت معي كل عناصر الطبيعة لغرس بذور السعادة في أرجاء الأرض و فضاء النجوم. غنينا جميعا لزرع ألحان الفرح والأخوة في قلوب بني البشر. غنينا لتكون الأيام والأزهار أجمل والناس أحسن. غنينا للفقراء والأغنياء. للصغار والكبار غنينا ولم ننجح في النفاذ إلى القلوب.
غنيت لك أيها الظالم ولم تغيرك أغنياتي. قضيت عمري في الغناء لك أيها الحاكم المستبد ولا زلت أنت أنت تشتم الفراشات وضفاف أنهار الحب كل شروق. قضيت أيامي في الغناء لك ولا زلت أيها الجلاد نفس الوحش لا تتردد في رمي الأبرياء من أعلى طابق بعمارة العذاب الأليم. غنيت لك أيها السجين وأهديتك أجمل سنوات عمري وأنا رابض بين قضبان زنزانتك وما ﺇن أنهيت مدة عقوبتك حتى بدأت تبحث عن الطيور لإحراقها وشم رائحة عظامها وهي تحترق. أمضيت الليالي وأنا أشدو لك أيها اليتيم ولما كبرت وتحسنت أحوالك وأصبحت مسؤولا كبيرا في البلاد أصدرت أوامرك بإلقاء القبض على كل عصفورة أحبت صغارها من أعماق قلبها الرهيف وتفننت في حبهم.
غنيت لكم كلكم وها أنا أحتضر وحيدا ولا من أغنية تخفف عني قسوة الموت. ها أنا أرقد في سرير الوحدة ولا من كلمة تذكرني أني كنت أجمل وألطف طائر في الوجود. ها أنا أشكو ضيق الحياة وقبر الأمل فيها ولا من مؤمن يترحم علي.
نعم، يحزنني أني ضيعت وقتي في الغناء لكم دون نتيجة.. ويحزنني أكثر أن حبيبي الشاعر الحزين الرقيق ضيع حتى هو وقته في كتابة القصائد لكم ولم تشكروه أو تنصفوه و تردوا له الجميل. كتب لكم وعنكم. بكى من أجلكم. دعا لكم في أشعاره. سهر الليالي وهو ينظم قوافيه وأبياته. غنى لكم وأنشد. ولما طلب منكم ذات ليلة سوداء ظالمة مساعدته على قطع النهر الشرس كسرتم قلمه. ولما طلب منكم إزالة الأشواك من عينيه أحرقتم أوراقه. ولما طلب قطرة ماء يسقي بها قلبه العطشان الذي جف من حرارة الاحتضار مزقتم صدره فمات المسكين وفي قلبه غصة وشيء من " حتى أنت يا بروتوس".
مات المسكين وهو يفكر في مصيري أنا صديقه الوحيد. مات نادما عما لقنني من دروس في حب البشر. مات مكتئبا لأنه المسؤول عن وقوعي في فخ وقفص اللئام. مات وحلمه أن تكون نهايتي أحسن من نهايته وها أنا احتضر ولا من يذرف ولو دمعة تائهة. ولا من يغسلني و يكفنني و يدفنني و يترحم علي.
ها أنا في القبر ولا من يزورني. ها أنا أعذب ولا من شفيع لي. ها أنا أساق إلى النار ولا من يشهد لصالحي. ها أنا خالد فيها ولا من يتذكرني.. وها هو الشاعر يذرف علي الدموع وهو في الفردوس. ها هو يدعو لي وسط الأنبياء والرسل. ها هو يفكر في أمام موائد الرحمان. ها هو بين أحضان الحوريات ينشد ما علمته من أغاني..وها أنا أبعث من الرماد وأحلق صوب الأعالي. ها أنا أغادر الجحيم مرددا أحلى الأغاني. ها أنا أرفل في الجنة والملائكة يرددون أروع الألحان. ها أنا بجانب الشاعر هو يرتل القصائد وأنا أرتل الآيات. هو يكتب الشعر وأنا اشهد ألا اله إلا الله. هو يقرأ الشعر أمام الأنبياء والرسل وأنا أذكر اسم الله.
هو يعلق القصائد على جبهة جبريل وأنا أستظل ببردة الرسول محمد.