اعتقلوه ذالك الواد الذي كان ماؤه فيّاضاً مثل اللجين: واد تَسّاوْتْ الذي كان يروي بساتين دوار أولاد عْليلش بسخاء، ويجعل من الكـَـفر جنّةً صغيرة على الأرض. اعتقلوه عندما بنواْ على عاليتِه سدّا إسمنتياً مسلَّحاً ليروي حقول الأغنياء فقط. الآن استحالت الجنّة إلى جهنّم: العطش. الجوع. الهجرة إلى المدينة، الأمراض...
أدخلوا الكهرباء إلى القرية فاتّسعتْ رقعةُ المرض والإحباط. حتى أشجار الزيتون مرضتْ ولم تعدْ تثمر ذلك النوع من الزيتون الذي كانت تفتخر به وبالزيوت المعصورة منه. (عين الطوْسْ) كان اسم ذلك المرض. «السبب هو أن الماء الذي تُسقى منه صعقه الضوء» قال مفتي الدوار. «السبب هو فيروس» تقول وسائل الإعلام.
بالرغم من ذلك، تعتبر ساكنة الدوار نفسَها محظوظة لأنها أنجبتْ فقيهاً أمِّيّاً يداوي جراحَها ويعالج أمراضها ويستعطف لها السماء لكي تمطر ويحميها من الجنّ ومن الآفات الطبيعية، ويبرئها من لسعات العقارب والحيّات، ويرشدها في أمور الدين والدنيا.
صغيراً أدخله أبوه الجزّار على الفقيه صاحب العلم الخفي والكرامات سيدي محمد بن عبد الله وقال له:«حفِّضه القرآن!» وهذا ما حدث وسنّه اثنتا عشرة سنة. ولكنّه لم يقدر على تعلّم القراءة والكتابة. وعندما توفيَ أبوه اضطر أن يعمل (خمّاساً) يرعى الغنم والإبل ويقوم بالسخرات وأعمال أخرى.
المسكين كان يتحسّر على القرآن الذي بدأ يضيع منه. وذات يوم، عند خيط الساقية الوحيدة التي أسالَها الجلادون من جسد تسّاوتْ السجين؛ كاد جملٌ عُصابي أن يقتله عندما عضَّ رأسَه. ومنذ هذه العضّة الجملية، خرج إلى الفتوى والاستفتاء.
في أول إمامةٍ له، خطبَ في الناس قائلا:«النبي أمّي، وأنا أمّي، وأنتم أمِّيون، وبيني وبينكم ما حفظتُ من القرآن، فمن استقبلني قبله النبي وقبله الله» وتحدّث لهم عن الوادِ المعتقَل في أحواض الأغنياء وعن ضرورة الجهاد من أجل أن إطلاق سراحِه.
بسحرٍ من أمّيِتِه وخَطابتِه العفوية، خرج سكان القرية من صلاة الجمعة متحمِّسين، وسارواْ مشياً حتى مقر عمالة قلعة السراغنة رافعين شعار:[الوادْ، الوادْ وادُنا***والمخزن هو عْدونا] فكان (لزاماً) (!) على السلطة المخزنية أن تكسر ظهورهم بالهراوات وتسجن بعضهم؛ وذلك ليس لأنّهم تظاهروا وطالبوا بحقّهم، ولكن لأنهم قالواْ «المخزن عدونا».
بعد أسبوع؛ ومن دون محاكمة أطلقواْ سراح جميع المعتقلين (لأنّهم أمّيون) واحتفظ السِّجن بمفتي الدَّوّار (لأنّه أمّي قادر على تجييش الناس).
بعد شهر أخرجوه بعضّة في رأسِه قريبا من أثر عضّة الجمل. خرج من المَعْقَل وهو يبتسم؛ وكأنّه لم يخضع لاستنطاق أو تعذيب. خرج وفي يده كتاب. وعندما سألوه عمّا جرى له في السجن، أنكر. وعن الكتاب؛ ضمّه إلى صدره بقوّة وقال:«إلاّ هذا... » وأضاف «في شهر واحد علّمني المخزن القراءة، ومن هذا الكتاب سأفتي لكم وفيكم».
ولكي يعرفوا ما حلَّ به، سأله أحمد الشقيّ:
هل يجوز التوضؤ بماء جرّةٍ سقط فيها فأر؟ فأجاب:
هل الفأر من بيت صديق للسلطة أم من أعدائها؟
لماذا هذا السؤال يا مفتي الدوار؟
إذا كان الفأر من بيت صديقٍ للمخزن؛ يجوز ذلك لأنّه طاهر؛ ومن بيت أعدائه، فهو نجاسة.
كيف تعاملواْ معك في المَعْقـَل؟
بكلِّ شـ... خير؛ وعلموني حبَّ الوطن.
نفس الأحمدُ طرح عليه هذا السؤال في بداية العهد الجديد لإمامتِه. حدث ذلك عندما ضبط أهل الدوار واحداً راشداً منهم في وضعية مخجلة مع عنزة:
ما حكم الشرع في ذلك يا مُفتينا؟
يُهجَّرُ الفاعلُ إلى المدينة، وتُقتلُ العنزة.
وما ذنب العنزة حتى تُقتل؟
لأنها لم تنطح مغتصبَها ولم تدافع عن شرفها ولم تقاوم.
لكنّها عنزة ضعيفة ولا قرون لها.
هذا لا يهُمّ... كان عليها أن تعَضَّ أو تركل أو تصرخ طلباً للنجدة.
عن الواد المعتقل في السدّ قال:«هل نسيتُم كم قتل منّا من أطفال ونساء وشيوخ؟ الوادُ مجرم يتعدّى حدودَه، والمخزن أعرف بجرائمه... ونحن كذلك مذنبون لأنّنا كُنّا نقدّم له الهدايا لكي لا يقتل أبناءَنا ولا يفيض على مزروعاتنا...».
استمرتْ الفتاوى العجيبة لمفتي الدوار خمس سنوات:
ما حُكمُ من دخّن «الكِيفْ» وشرب الشراب وذبح في السرّ وغشَّ في الميزان وتزوّج طفلة وطلّق زوجة بدون سبب مقنع وزنى وأكل مال يتيم و...(الكلام عن الحاجّ الجزّار الذي محلَّ أبيه) ثم ذهب إلى الحج.
تُغفر جميع ذنوبه.
أتوه بالعنزة الزانية ليقيم عليها الحدّ، فأخذها منهم:«إنّ عذابها لشديد» وأمرهم بالانصراف. لكنهم ما انصرفوا حتى رأواْ دخانا منبعثا من بيته ورائحة شواء مشهِّية.
لحظتها أتاه الأحمدُ بفأر مبلّل وقال:
هذا هو الفأر عدُوّ السلطة الذي سقط في جرّة الماء.
فأخذه منه من ذيله وضرب به الأرض وشرع يسحقه برجليه:
مُتْ أيُّها العدُوّ... مُتْ ولا تدنِّسْ بعد اليوم ماء وضوء المؤمنين!
في نفس تلك الليلة، في منتصفها، جاءه الحاج الجزار ونقر برفق على باب بيتِه الثقيل بالخشب والمثقل بالمسامير النحاسية الضخمة:
سلام الله عليك يا مفتينا.
ماذا تريد؟
جئتُك بلحم جديٍّ ومال...
مرحباً بك.
... وهذه المرأة من المدينة...
مرحباً بها.
«من سرّه زمنٌ *** ساءته أزمان» يقول الشاعر؛ و«لا بدَّ لكلِّ مجدٍ أن يزول» قال ابن خلدون. اكتُشِفَ أمر المفتي المعضوض عضَّتين، وخرج الناسُ عليه، وتجمهرواْ حول بيتِه؛ وعندما قال لهم:«يا أيها الذين آمنوا إن أتاكم سفيه بـ...» رشقوه بالحجارة وصفعوه بالنِّعال...
كان مفتي الدوار ولم يعُد. هاجر مفتي الدوار إلى المدينة ولم يعُدْ. اشتغل مفتي الدوار بالشعوذة ووعد. ترشح للانتخابات وفاز ولم يفِ. وتألّق نجمُه في القنوات الفضائية ولم يتذكّر. والوادُ مات في السجن، واللجين صار تُرابا، والعقارب والحيّات تكاثرت، والدوار لم يعُد لا جنّةً ولا جهنّما... صار الدوار قضية مفترضة.