أقحمت نفسي وسط جمع لا أعرف منهم أحدا، أغروني بطريقة تدافعهم واقتحامهم للباب، انتحيت مكانًا توسمت فيه ألفة بين لوحات فنية زيتية، الرواد من حولي يتأملون أشكالها بشكل مريب، تبدو لي عيونهم قد علت حواجبهم، وأن كل ما فيهم، لولا العيون، ما كانت لتقوم لهم قائمة.. بل لولاها ما كانوا ليشبهوا البشر أبداً.. اللوحات، بعضها معلق، وأخرى تلامس الأرض، وبين هذه وتلك منها ما لا يستحق الإطار الذي وضعت فيه.. لم أكن ناقداً، ولكني أنقل انطباعًا داخلياً، وحدسي لم يخذلني يوما....
غريب وسطهم، لكن غربتي مهما كانت شاملة لا تضاهي غربة تمثال منحوت مرمي في زاوية، اقتربت منه، سلمت عليه سراً، لمست عينيه المتحجرتين، وقلت له بلا صوت: " أنت نسيبي، أنا مثلك تماما، غ... "..
كلمة " غريب" همست له بها في أذنه..
ضحكت من نفسي حين انتفضت لبعض الظن الذي أملى علي أن هناك من يترصدني، بل ويسمعني، وإن لم يكن فهناك حتماً من يقرأ أفكاري..
تتطلع إلي الأنظار وأزداد خجلاً، فكرت: " لو يفصح الإنسان عما يفكر فيه علناً لأُثيرت فضائح، وقد ينبذه الناس "..
أقف مشدوهاً وأتخيل أشياءَ وأشياءَ، التمثال المنحوت بدا لي يتململ، كان أيضًا مثلهم، يترصدني، إنه يتحرك، يرفع يده، يوميء بها، يتقصدني أنا تحديدًا، ما أجمل أن يهتم بك تمثال!..لكن.. لحظة.. ما هـذا ؟..إنه لا يتحرك كما ظننت، بل رأسي أحس بها ثقيلة، وهي ربما تخيلات.. إنها فعلاً هواجسُ، عانيت منها منذ صغري، إذ كلما ثقلت رأسي من أكلة تهيض بطني، تنملت عيناي، وبِت أرى أشياء لا وجود لها.. لكن هذه المرة الذي يحصل شيء مختلف، التمثال يتحرك فعلاً، وعيناي لم تتنملا، وأنا اليوم لم آكل لقمة واحدة، مما يعني انتفاء سبب وجيه لهذا الفيلم الهيشتكوكي.. سأتأكد تمامًا من هواجسي حين مال إلي أحدهم وقال لي: "هج" يريدك، وذكرك بالاسم "..
انتفضت، وصرخت بذهـول:
عفوا سيدي،
هج يريدك؟ ألا تسمع نداءه؟
وكيف تعرف أني المقصود.. ثم أنا هو "هج".. وإذا كان هنا غيري من يحمل هذا الاسم فهي صدفة لا غير، لكن كيف يعرف اسمي.. قُــل ؟
لم يجبني، إنما الجواب سيأتيني من غادة جميلة، وقفت بين الجمع، وقالت:
" التمثال هج يرحب بكم،وأريدكم آذاناً مُـصغية لخطبته المسائية "..
هذه المرة لم يتحرك غيره، والناس من حوله موميات، أنا الوحيد بينهم عبارة عن كتلة من اللحم..وربما العكس تماماً..
تكلم التمثال وقال:
" أيها الأوداء، هذا المساء مختلف تماماً، لأول مرة يزور المعرض من أتوسم فيه بعضاً من ذاتي، إنه بينكم.. إنه نظيري، غريب مثلي، ونسيبي كما همس لي منذ قليل..
قال ذلك ونظر إلي دون أن يشير.. "يا إلهي، إنه يقصدني.. هل أنا نظير؟" ولتمثال..! ؟
"الصمت يلفني من الداخل، أما الخارج فإطار أنا فيه مجرد جثة محاطة بكائنات غريبة، أصرخ في وجوهها، ولا يُسمع صوتي،لم تصدر عن الحاضرين ولو همسة حين حركت يدي في كل الاتجاهات،كنت أريد أن أثيرهم، لكنهم هم من أثاروني حين وضعوا أيديهم على قلوبهم وهم يستمعون لهج، بدا لي أن المكان المناسب لوضع أيديهم هي الرؤوس لا القلوب، في هذا الموقف على الأقل..، أضع عنهم يدي فوق رأسي، فأبدو كمن يجلس الحِبى بالمقلوب، لا تزال رأسي ثقيلة مع ذلك،وقلبي أتحسسه فتذهلني دقاته التي تتالى كلما تأملت التمثال الذي لازال يسترسل في خطبته، لم يبرح مكانه،لكن حركة الحاضرين توقفت تماماً، وكل ما في الجمع هو هيئتهم وهم يصيخون السمع باهتمام بالغ..
يسترسل هج في كلامه: " أنا اليوم تَـئِق،و نظيري بينكم مِئق، ويبدو أننا- لا اليوم ولا غدا- لن نتفق، هو سيظل تحت وأنا دوما فوق...."
صمت هنيهة فأضاف دون أن يتحرك:
" إن خالقي مهما أوتي من مهارة فنية فإنه لم يفلح في أن يوحد بين نقط الاختلاف بيننا.. لذلك لن أقدم لكم نظيري اليوم، ولكني سأفعل لاحقاً حين ستتحاذى روحانا، في الفِعال، حذو النعال، وفي انتظار هذا اليوم فليكن سعيكم شتى.. الشيخ منكم قبل الفتى.. "..
ستغرق القاعة في تصفيق حار لكلمات "هج" الأخيرة، أرى الأيدي فقط تحتك، ورغم أن كل واحد من الحاضرين يوقع بالبنان على البنان، ولكني لا أسمع أصواتا مع ذلك، بل لا أرى أحداً غيري في المكان، حتى التمثال لا وجود له.. أنا فقط لا غير، أجلس، كعادتي، في مكان موحش اعتدت عليه محاطًا بلوحات تحيرني، وأصباغ تلطخ داخلي أكثر مما تلطخ ما أرسمه دون أن أتمه أبدًا ؛ كلما جلست لأرسم " أم لوحاتي" أحلم بأني فنان ناجح يقيم معرضًا يزوره الرواد، ويثنون عليه، فتناديني الأصوات من الداخل، ويتهافت أصحابها على شراء لوحاتي،أراهم يخطبون ودي، ويسعدهم توقيعي الذي يعلي من شأني قبل شأنهم، و في صدر صالونات الفيلات سيعلق المعجبون لوحاتي، وقد يختلفون في شرح تيماتها، لكن حتمًا سيتفقون حول اسمي وبراعتي وألمعيتي.. هكذا أقضي يومي كما العريس، وسط لوحاتي، أستمتع بحرارة اللقاء مع روادي كلما غشي فكري أوهام أستمرئها.. وأظل أحلم، أتخيل، وحين أصحو للحظات فقط أكره واقعي، وأتـفل على لوحاتي التي لا يعرفها أحد، وألعن وحدتي، ولا أجد حولي أحداً من زواري، وأقتنع على مضض أنهم موجودون في مخيلتي فقط، وهناك في ذاكرة الموتى أتخيل كثرتهم،أستقبلهم بصفاء، أحس بهم، أحاورهم، لكني أفتقدهم في الصحو رغم كثرتهم..
"هم موجودون فقط في مخيلتي..." يا إلهي،إنها الحقيقة، لكني أرفض التسليم بها لأن الصفاء الذي يجتاحني، بسبب وجودهم، يريحني كلما أثنوا على رسوماتي، وتهيجني مجرد ملاحظة منهم مهما كانت بسيطة تنتقص ليس مني فقط بل من كل فنان.. سأكتب يوماً في وصيتي( ليس مُهمًا لِمَن) بأن الحلم هو ما ينقصنا في زمن فيه هاتف نقال وحاسوب..
لا أحب أن أصحو، وحين أفعل مرغماً أحسب الواقع حلمًا، ولا تصفو نفسي إلا في نير هواجسي، أعتبر نفسي فناناً يعرفه القاصي والداني.. لكن ما سيحصل لي هذا الصباح سيغير أشياء كثيرة من مجرى حياتي،سأهتــاج لما ورد في صفحتي الخاصة في الفيسبوك، قرأت فيها الخبر التالي:
" الفنان العظيم "هج"، ستكون ضيفنا، ندعوك لحضور حفل بهيج نقيمه على شرفك، سنسلمك جائزة أسوأ لوحة فنية ترسمها هذا العام.."
لم يشغلني السؤال عن الجهة التي تقف وراء الدعوة، ولكن الذي يسبق على هذا لأنه الأهم هو اعتبار أصحابها مجرد حثالة، أوباش، يغارون مني.. ودعوتهم في النهاية، وإن كانت تضمر مذمة فهي من ناقص لكامل..
سأقضي يومي مثل ثور، أضرب أخماسا لأسداس.. الرسالة نصب عيني مثل ملاءة حمراء..أقرأها، وأعيد قراءتها، وكل مرة أزداد اقتناعا أني لست المقصود البتة بل "هج" الآخر...