حين اقتربت الشمس من نهاية الافق عادوا من جولة في أسواق المدينة، في الطريق كان باسل يجلس على كتفي أبيه ويداه القصيرتان تحيطان بجبهة ابيه السمراء المحززة بأخاديد تتدحرج خلالها بعض حبات العرق، كانت البسمة تشق شفاه الاخوات الثلاثة لباسل لتظهر أسنانهن اللبنية التي طبع قسم منها تسوس خفيف، زحف الليل الى المدينة ببطء، تناولوا الشطائر التي جلبوها من مطعم الاكلات الشعبية وأستلقى باسل كعادته في حضن أمه الجالسة قرب المدفأة، لفته بذراعيها وراحت تميل بنصف جسدها بحركة تشبه حركة بندول الساعة، اطلقت نظرها نحو شباك الغرفة وفجأة ألتفتت الى زوجها... لابد أن نثبت شريطا لاصقا من النوع العريض على زجاج النوافذ كما يفعلون في الدوائر الحكومية لكي نتجنب أذى الزجاج الذي يتكسر ويتطاير بسبب القصف حين تقع الحرب، أومأ برأسه واستل تنهيدة تبعها زفير طويل، بعد أن نام الاطفال كل في فراشه تحولا الى غرفتهما، شبك كفيه تحت رأسه وراح يمسح بنظره سقف الغرفة الذي لا يشبه سقف الملجأ الذي كان ينام فيه أبان الحرب السابقة حين كان آمراً لأحدى السرايا في الجبهة، ذلك الملجأ كان محفورا تحت الارض وسقفه من الصفيح المضلع المغطى بأكوام من التراب، لم يكن حينها ينام في الملجأ لاكثر من ساعتين متواصلتين بسبب ظروف الحرب، خطر بباله ان يحجز مكانا لعائلته في الملجأ الحكومي الواقع وسط الحي ليبيتوا فيه ايام الحرب التي توشك ان تقع حيث اقتربت نهاية العد التنازلي لموعد بدئها، في الصباح ذهب الى الملجأ وسجل أسماء عائلته ضمن قوائم الراغبين بالمبيت في الملجأ بحثا عن الامان من القصف اثناء الحرب ’ ليبقى هو في البيت حين تقع الحرب يحميه من السراق الذين يستغلون اجواء الحرب لسرقة الدور الخالية من أهلها، بعد اسبوع انتهى العد التنازلي ونشبت الحرب وبدأت العائلة المبيت في الملجأ، عند الصباح تغادر العوائل الملجأ وتذهب الى بيوتها فالقصف غالبا ما يكون اثناء الليل، مرت ايام من الحرب وكلما غط في إغفاءة، مزقت أصوات الانفجارات سكون المدينة، وأضاءت سمائها التماعات القذائف المضادة للطائرات والسنة النيران المتصاعدة من البنايات التي تطالها القنابل التي تلقيها الطائرات، لم يقلق كثيرا بسبب اطمئنانه على عائلته التي لا تعرف ماذا يحدث خارج الملجأ المصمم لتوفير الامان برجة كاملة،
توالت الايام وعائلته تتنقل بين البيت والملجأ، بعد منتصف ليلة اليوم الثامن والعشرين للحرب فز من نومه مرعوبا بسبب الانفجار الذي هز المنطقة بعنف، هاجمه القلق دفعة واحدة، كان خليط القلق الذي اجتاحه كخناجر تنغرز في صدره بشكل متكرر، دلف الى الشارع دون أن يتذكر انتعال حذاءه، وقف لبرهة وجال بنظره في كل الاتجاهات، أرعبه الوميض المنبعث من جهة الملجأ، هرول باتجاه الوميض ودقات قلبه كما لو ان احداها تريد أن تسبق الاخرى، تبللت وجنتاه وشاربيه بخليط من العرق والدموع التي ذرفها دون أن يدري ’ وصل السياج السلكي الذي يحيط بالملجأ ليجد حشودا من الرجال الممسكين بالسياج وهم يرقبون ما سيؤول اليه الانفجار الذي أحدثه صاروخ اخترق سقف الملجأ وانفجر في الداخل مطلقا العنان لألسنة اللهب التي كانت تثب من الفتحة التي احدثها الصاروخ باندفاع شديد كما لو أن تنينا كبيرا ينفخها، فشل في أقناع الجنود المحيطين بالمكان بمحاولته الدخول الى الملجأ، وقف ضمن حشود الاباء يتردد في أذنيه زعيق باسل، بعد ساعتين اخمدت النار وتمكن رجال الاطفاء من فتح ابواب الملجأ الثقيلة التي انتفخت بسبب العصف الذي احدثه الانفجار، مع بزوغ الشمس بدأ رجال الاطفاء بأخراج الجثث المتفحمة ووضعوها على الارض قرب السياج السلكي، لم يبق امامه إلا محاولة التعرف على جثث افراد عائلته، وهو يتنقل بين الجثث المتفحمة لفت انتباهه التماعة تنبعث من صدر احدى الجثث، كانت الالتماعة تنبعث من قطعة معدنية تتوسط صدر الجثه، انتزع القطعة من مكانها برفق.... مسحها بطرف ثوبه فعرف انها القلادة التي اهداها لزوجته في عيد زواجهما.