لم يكن بين ثنايا رأسها ومضة تشير إلى أنها ستنوء بهذا الكم الهائل من الهموم التي ما فتئت تتراكم حتى أصبحت كجبل يتكئ على كتفيها المتعبين، حين كانت يدها الناعمة تمسك بالمشط الخشبي وهو يخترق شعرها العاكس لأشعة الشمس الذهبية رسمت في مخيلتها الصغيرة ثمة إطارا ورديا لحياة بسيطة هادئة، لكنها الان اقتنعت أن الأيام تسير دون أن تصغي لأحد، وأن الايام دائما تستطيع الإفلات دون أن يتمكن منها احد،
شعرها الذي كان موشحا بالسواد بدأ الشيب يغزوه مثلما ينقض النهار على أطراف الليل المدلهم، في قلبها الخافق بلا هوادة ليس ثمة أمل، التجاعيد التي أمسكت بوجهها المحزون لم تعد تعني لها الكثير، بعد أن أصبح المعيار لديها مختلفا، استمرار دوران الحياة.. أو بلوغها أطراف الزمن لم يعد يعني الكثير، الحياة بلا ملح.. الزمن متخم بالحروب.. متخم بالمأساة، ما زالت تتذكر آخر قهقهة لها في اليوم السابع لزواجها وهي تجلس على كرسي الخوص في الطرف الشمالي لحديقة البيت الذي حلمت أن تجعل منه واحة تعج بالحياة، حينها كانت أختها الكبرى - التي ماتت لاحقا بعد عجز كليتيها - توصيها.. إياك والهم.. إرمي همومك على الله.. كانت هي تصغي بانتباه واضح مثل طفلة حذقه تفتح ذراعيها لحياة هادئة بسيطة يطرزها الامل.
ها هو الليل قد صبغ بلونه القاتم كل شيء.. البيوت.. الشوارع.. الأشجار.. وتقاسيم وجهها التي ضاعت بينها سنوات العمر، لقد فقدت أطراف تأملاتها... كانت تستلقي في فراشها باستسلام واضح، عواء ذئاب يجوب الشوارع، السقوف تئن تحت وطأة أزيز الحوا مات التي ما فتئت تسبح بعنجهية في سماء المدينة...... قبل أن يستباح الزمن كانت السماء تحتضن النجوم بسكينة، وكانت هي تعرف جزءا من احتمالات مجرى الحياة، لكنها الآن ضاعت بين تقلبات الزمن ، حربٌ تلد أخرى.. حصارٌ يلد حصارا.. وهماً يلد آخر.... كبر إبنها الوحيد في خضم هذه الأيام الموتورة بالقلق، أضاف قلقها على مستقبله هما آخر إلى ما تحمل من هموم، حين تنظر إلى الجبال كانت تراها صغيرة... فهي ليست بحجم الهم الذي تحمله على كتفيها المتعبين اللذين يقتربان من الأرض حين تتوكأ على عكازها الخشبي الذي اقتطعه لها ابنها من شجرة التوت التي ما زالت في وسط الحوش تراقب تقلبات الزمن، شجرة التوت تنتظر عودة سلام كما تنتظره هي، فهو الذي زرعها منذ ان سكنوا هذه الدار، وكان يرويها رغم شحة الماء ، كان يجمع الماء المستخدم في الغسيل ويكبه في حوضها حتى كبرت، اصبحت جزءاً من العائلة فهي تذكرهم بسلام الذي كان يحب الجلوس في ظلالها وقت الصباح حين يتناول الشاي ويدخن سيكارته وهو ساند ظهره اليها ويستمع الى فيروز وهي تصدح في اذاعة بغداد.
آه... بدأت تقولها بصوت واضح دون أن يسمعها أحد، كانت مع هذا الهم تقترب من سلام في قفص الأسر الذي ولجه منذ بدايات الحرب الأولى، خلف أسوار القفص ثمة أسئلة.. عن المدينة.. وشجرة التوت.. وابنه الذي كبر.. والليل الذي كان وديعا قبل الحروب، فرغم بساطة الحياة، إلا أنها كانت جميلة، أجمل ما فيها كان هدوء الليل، وخفته، فهو لم يكن يطبق على صدر أحد... كان مسالما ولم يألف عواء الذئاب، لقد طال فراقها مع سلام، وطال خصامها مع هذا الزمن الذي ما زالت بقعه المتعفنة تلطخ أيامها الصدئة، الحرب هي سبب كل ما يحصل من ويلات، الناس قد نسوا تقريبا طقوس الزواج، والختان، والنجاح في الدراسة، فما يجري لا يمنح احدا فرصة للفرح أو للتأمل، إستفاقت قلقة من حلم ازعجها، أيعقل ان القدر قد ابتلاني ولا يريد ان يفارقني، ليس لدي الا هذا الولد، بدأت اخشى عليه كثيرا.... ترقب وانتظار مرعب، لا تريد ان تروي حلمها المزعج لولدها الذي بدأ يلح عليها في الذهاب الى الطبيب بعد أن اقلقه اصفرار وجهها وتهاوي قواها، رفضت الذهاب الى الطبيب ولكي تقنعه وتقلل من الحاحه عليها طلبت منه جلب بعض المسكنات من الصيدلية الملاصقة للمستشفى الوحيد في المدينة والذي يبعد عن دارهم ثلاثة كيلو مترات تقريبا، اسرع في المشي فليس لديه نقود زائدة عن الحاجة لكي يستأجر سيارة، وصل الصيدلية واشترى المسكنات التي طلبتها أمه، هم مسرعا للعودة الى البيت دون ان ينتبه وهو يعبر الشارع لتصدمه سيارة الاطفاء التي كانت مسرعة باتجاه سوق المدينة لإطفاء حريق نشب في احد مخازن تجار الاسفنج. بعض القريبين من الحادث حملوه الى المستشفى وطلبوا من سائق سيارة الاطفاء استكمال مهمته، اصيب في ذلك الحادث بكسور في ساقيه، طلب من احد الحضور ايصال العلاج لامه وإخبارها بما جرى، تقاذفتها نوبات من القلق والاضطراب وهي تنتظر خبرا عن سبب تأخر ابنها الذي ايقنت انه قد حصل له مكروه، جاءها من يعطيها المسكنات ويخبرها بما حصل لابنها، استلت من قعر صدرها تنهيدة وقالت.... إن بعض الشر أهون