لم تكن تلك الأيام التي قضاها صديقي محمّد في قريته الفلسطينية أياماً عادية، كانت زيارة قصيرة إلى فلسطين من خلال تصريح زيارة تصدره إدارة جيش الإحتلال الصهيوني للراغبين في زيارة وطنهم لمدة لا تزيد عن الشهر، لكن هذه الزيارة غيّرت مسار حياته وكوّنت في قلبه الحالم قصّة حبّ لن تتكرر أبداً.
بعد رحلة طويلة مروراً بحدود الدولة الصهيونية المزعومة، وبعد أن أخذت عيناهُ تقطفُ صوراً من كلّ بلدةٍ يمرّون بها في طريقهم إلى بلدته الصغيرة، وبعد أن سكن عبقُ الربيع ثيابَهُ، بلّلت دموعُ الشوقِ قميصه، بعد كلّ هذا وصلَ إلى مشارف البلدة. هادئةُ جميلةٌ بكلّ تفاصيلها، في مدخلها تصطفّ أشجار الصنوبر بفخرٍ كأنّها ترحّب به، أو كأنها تهتفُ بكلّ سعادةٍ وأمل "واقفونَ هنا ولن نركع".
هكذا كانت البداية، دافئة بحبّ الوطن واشتياقه، عبقة بعطر أزهاره، مليئة بالحبّ النابع من قلوب أقاربه ومن استقبلوه، وصل إلى بيت جدته، وألقى ما عليه من تعب السفر في حجرها وأراح شفتيه على كفّها المباركة، ثمّ بعد حينٍ كان الزوّار قد بدؤوا بالتوافد على بيت جدته للترحيب به، فهذا يهديه زيتاً، وذاك يهديه زيتوناً وتيناً، وذاك يهديه تمثالاً من الجبس نحتت في قلبه عبارة "فلسطين لنا"، امتلأت حقيبته بالهدايا والتحف التي تساوي عنده الكثير.
بعد أيام من المكوث في البلدة والتعرف على أقاربه الذين التقى بهم لأوّم مرة في حياته، خرج يوماً مع ابن عمّه إلى أحد الجبال التي تحيط بلدتهم كأنّها تحرسها من الريح، وتحميها من الغازي المغتصب، شامخة تلك الجبال كثورتهم، راسيةٌ في الأرض كانتمائهم للوطن، دمعت عيناهُ كثيراً خلال رحلته إلى ذاك المكان الساحري، وآخيراً وصلا وأخذا قسطاً من الراحة في أحضان داليةٍ من العنب أرخت جدائلها على الأرض وأراحت أوراقها الخضراء على قطوف العنب.
أخذ يتأمّل السماء، بينما العصافير تحلّق فوقهم وتغرّد فرحةً بهِ، وبعد فترةٍ من الزمنْ مرّت بجانبهم فتاة ريفية، أحسّ بها وقدماها تمرّان على أوراق الشجر المستلقية على الأرض، نهض واستقرّ جالساً متربّعاً، نظر إلها بفضول فكانت المرّة الأولى التي يشاهد فيها صديقنا محمّد الفتاة الريفية على طبيعتها. بكلّ ما منحها الله من أنوثة تخطو على الأرض برقةٍ ونعومة كادت تطلقُ فيها الأعشاب شعراً وقصائداً، ثوبها الفلسطيني المطرّز المنسدل على جسدٍ شابه الماء بنقائه، تزيّن ظهرها خصلات شعرٍ تنحدر من رأسها كشلالاتٍ لا تكترث بشيء، تمرّ من تحت شالٍ أبيض ملفوفٍ على رأسها يغطّي نصف شعرها ويتركُ النصفَ الآخر لنسائم الهواء تداعبه على مهْلٍ باستحياء.
لم يكتفِ محمّد بالنظر وهو جالس، فاستقام جالساً كأنّ أميرةً مرّت عليهم في طريقها إلى القصر، وهو يتسابق مع الرعية المصطفة على طول الطريق ليلمح جمالها ولو للحظات، إكتسى وجهها الخجل حين التقت عيناهما، وكان محمّد قد غاب في عينيها ثوانٍ طويلة، فعيناها من عالم آخرْ، بصفاء الماء وسواد الليل، تشكّلت حولهنّ كواكب الدنيا، والتفّت تحميهنّ رموشٌ طويلة تزيّنهنّ.
ردّت عليهم السلام بخجل واستحياء: "عوافي يا شباب"، فردّ ابن عمّه السلام قائلاً: "أهلاً ندى، خليني أعرفك على ابن عمّنا محمّد" .. ندى أخت فارس ابن عمّ محمّد هي التي ستغيّر مسار حياته وستصنع بعينيها قصّة حبٍ ليست عادية.
جرى حديث قصير أثناء التعارف، ندى فتاة مثقفة جداً تقرأ لشعراء وأدباء كبار من العصور القديمة، للقضية الفلسطينية في قلبها مكانة عظيمة تدفعها دائماً إلى الكتابة في هموم الشعب الفلسطيني وقضايا الوطن، ليست كباقي الفتيات التي عرفهنّ محمّد في البلاد التي أتى منها، لم تتحدث عن الموضه بطريقة مسترسلة مملة ولم تطلق ضحكات عالية لتتعرّى بها أمام محمّد كي تأسر قلبه، هي فتاة بسيطة جمالها وأنوثتها يكمنان في بساطتها، كان يتأمّل ندى وعقله الباطن يقارن بينها وبين من عرفهنّ، كانت مختلفة جداً، هادئة رزينة عبقة بالأنوثة مفعمة بالأصالة والوعي الوطنيـ، أسرته بحديثها الجميل.
بدأ يزور عائلة عمّه كل الفينة والأخرى، يتحدث معهم يشاركهم همومهم وأفراحهم، يتحدث مع الجميع ومن بينهم ندى، كل يوم يزداد في قلبه حبها وتزداد في قلبها محبته ومعزته. هي أيضاً أحبته ولكن بصمت، أما هو فكان دائماً يلمّح بذلك، حتى أنه في يوم من الأيام قام بكتابة رسالة تخصّها، رشّها بالعطر، واستيقظ في الصباح الباكر وتوجه إلى البستان كي يعطيها إياها، كان فرحاً جداً والسعادة تكاد ترافق أنفاسه. عندما وصل محمّد إلى البستان لم يجدها، فجلس تحت إحدى شجرات الخرّوب المعمّرة، وظلّ ينتظرها حتى وصلت ولكنها كانت برفقة فتيات البلدة، جئن ليقطفن ثمر الصبّار في الصباح الباكر، لم يكن قد خطط لهذه المفاجاة، فالتزم الصمت وجلس يراقب الفتيات من بعيد، كانت ندى كما الفراشة تحطّ على شجيرات الصبّار بخفة ولباقة، تعامل الشجيرات كأنّهن أواني من الزجاج الفاخر، كما تعامل سيدات المجتمع أشيائهنّ الثمينة!
بعد لحظات تفاجأ بندى تقترب من الشجرة التي يجلس في ظلّها، فارتبك وخجل من موقفه، قام بالإختباء خلف الشجرة كي لا تراه، جلست هي عند الشجرة وبدت وكأنها تحفر شيئاً على جذعها وتغنّي:
"يا ظريف الطول وقف تَ قلّك .. رايح ع الغربة وبلادك أحسن لك .. خايف يا ظريف تروح وتتملّك.. وتعاشر الغير وتنساني أنا"
كم كان صوتها عذباً، وكم كانت مشاعرها صادقة وهي تتلو تلك الأهزوجة الفلسطينية الشعبية، كأنها كانت ترسل برقيات حبّ إليه دون أن تعلم أنه أقرب الناس إليها في هذه اللحظة. أنهت ما كانت تقوم بهِ، وعادت مع صديقاتها في طريقهنّ إلى كرم العنب، خرج صاحبنا من خلف الشجرة وتفاجأ بما كتبته ندى .. كانت قد رسمت خارطة لدولة فلسطين كتبت داخلها "هل ستعود يا محمّد؟". هذه الكلمات القليلة أشعلت الشوق في صدر محمّد وأثارت فيه مشاعر كثيرة تتزاحم في شرايين قلبه كما تتزاحم الحمائم حين يطلقها صاحبها إلى السماء شوقاً للحرية، فرح كثيراً وكاد يغشى عليهِ من الفرحه، إنها تحبه نعم ومجنونة به، قام باللحاق بها خلسةً كي لا تكتشف أمره وتخجل ثم تعود إلى المنزل.
اقترب منها ومن الفتيات قليلاً وإذ بهنّ جالسات على الأرض يتحدثن عن فلان وفلانه وزواج فلان من فلانه والضحكات الخجلة الآسرة تملأ قلوبهنّ وقلب محمّد... قرر أن يلقي عليهنّ السلام وأن يغادر بعدها لأنه لا يريد الإحراج لندى. تفاجأت ندى بحضوره وكأنها تقول لنفسها: "هل يعقل أنه قرأ ما قمت بكتابته على الشجرة! .. "ملأت الدماء خدّيها خجلاً وابتسمت ابتسامة خاشعه كادت تودي بقلب صاحبنا العاشق، ردت السلام هي ومن معها وهمّ محمّد بالمغادرة بعد أن قال لندى: "الشجرة عليها ورقة تنتظر ان تقطفيها" ...فهمت ندى مغزى العبارة وعرفت أنه قد ترك لها شيئاً عند ذات الشجرة .. رحل محمّد إلى المنزل..
قرأت الرسالة وكانت في قمّة السعادة، أعادت قراءتها خفيةً في طريق عودتها .. وفي غرفتها وهي مستلقية على سريرها، وفي المطبخ وهي تحضّر الطعام... وفي كلّ مكان تكون فيه قادرة على القراءة خلسة! تقول الرسالة:
"نــدى، هنيئاً لهذه الأرض أنها تحملُ فوقها قدميكِ، هنيئاً للشجر الذي تمرّين في ظلّه، هنيئاً للهواء الذي تتنفّسينه، وهنيئاً للسماء التي تظلّك! .. إنني لا أجيد كتابة الشعر والرسائل الغرامية، لذا سأقولها لكِ بكل صراحه، إنّي أحبّك. ولا تخافي أنا أعلم تماماً عاداتنا وتقاليدنا وأعلم أنني لا بدّ أن أتقدّم لطلب يدك الكريمة من عمّي، وهذا ما سأفعله في أقرب وقت ممكن خلال زيارتي، أنا ذاهب في رحلة إلى القدس، سأصلّي في المسجد الأقصى وسأدعو الله أن يسكنني في عيونك ويسكنك في دمي، أحبك جداً."
خرج محمّد إلى القدس بصحبة ابن عمّه فارس، دخل مدينة القدس أي الحرم القدسي على قدميه، كانت منظراً رائعاً مدهشاً لا تكاد العين تصدقه، ولا تكاد الروح تحتمل روعته ودفئه، يحيط بالقدس سور قديم صلبٌ عالٍ، وفي ظلّه يقف الباعة بانتظار السياح، عندما تمرّ من بينهم تواجهك البوّابات المقدسية، بوابات المدينة القديمة، عالية جداً ولها أقواس، قديمة الحجارة عريقة الهيبة، تمرّ من خلال البوابة لتدخل إلى البلدة القيدمة، لتشاهد عن يمينك وعن شمالك أسواق التراث والتحف والملابس الفلسطينية العريقة المزركشة بإتقان وجمال، بعد أن تقطع السوق القديم على أرضية من البلاط الحجري المغطى بقليل من الشعب، تدخل من جديد ومن خلال بوابة أخرى إلى ساحة الحرم... هنا تتجمّد الدماء في العروق، وتجحظ العيون، وتقف مذهولاً بمنظر قبة الصخرة! ومنظر المسجد الأقصى الكريم... يا الله!! قضى محمّد يومه مذهولاً معانقاً بروحه وطنه فلسطين وقدسنا الحبيب، صلّى في المسجد الأقصى ذو القبّة السوداء المدهشة، ودعا الدعاء ثمّ خرج.
وعادا بعد يوم كامل إلى البلدة، في اليوم الثاني صارح أهله برغبته في الزواج من ندى، فلم يعارضوا الفكرة وذهبوا إلى بيت عمّه لخطبتها، سارت الأمور على ما يرام، وتمت الخطبة بخير وسلام، وفي إحدى الليالي السعدية التي كان يقضيها محمّد في بيت عمّه مع ندى، قام الجيش الصهيوني بقصف المنزل قصفاً عشوائياً همجياً ظالماً لا يمتّ للإنسانية بصلة! بل وقاموا بقصف معظم بيوت البلدة، إستشهدت ندى، وانتصر الإحتلال على الحب، وأسدلت الستارة على مسرحية تنتهي دائماً بالموت، مسرحية صنعها ضعفنا وخوفنا منهم، وعاد محمّد متخماً بالآلام، حاقداً على الجيش الصهيوني، محمّلا بالبكاء والحنين لندى التي فارقت الحياة لا لشيء، ولكن فقط لأنها فلسطينية.
هذه ليست قصّة حب فريدة، بل هي واحدة من ملايين القصص التي تولد كلّ يوم في فلسطين ويتم وأدها بالرصاص وطائرات "الأتابشي" الأمريكية على يد ابن صهيون. إنها ليست نهاية سعيده، آه كم هي مؤلمة.
هذه الآه التي خرجت من صدوركم ليست إلا واحده من الآهات الكثيرة التي تخرج من صدر كل فلسطيني وفلسطينية يعانيان ظلم الإحتلال وجبروت دولة الإرهاب.
إنتهت.