نهض "ثائر" فَزِعاً من سريره، بُعيدَ انتهاء حلم غريب، حين رأى المدينة الصغيرة التي يسكن فيها، يسير أهلها في الأسواق عُراةً غير مكترثين. دلك عينيه وهزّ رأسه ليستعيد صحوته الخاملة.نهض من سريره على مهل، ليرشف قليلاً من الماء الذي وضعه إلى جوار رأسه، مكملاً مسيرته المرسومة كل صباح. ثائر هو الولد الوحيد لأم وأب والأخ الأكبر لأخت واحدة. لم يكمل المرحلة الإعدادية بعد، وهو الآن يجهّز نفسه لمغادرة المنزل والذهاب للمدرسة التي تبعد مسافة قصيرة عن منزلهم البسيط.سلّم على أمه وجلس على مائدة الطعام، والحلم مازال يطوف كالإعصار ببحر مخيلته، لفت انتباهه خروج أخته إلى مدرستها بلا حجاب يستر رأسها، فتدارك الأمر وصرخ بلا وعي بحضرة أمه وأبيه اللذين التحقا بمائدة الطعام (ما هذا...؟ !، أنها خارجة إلى الشارع بلا حجاب...أمي.. أبي انظرا إليها)، تجيبه أمه مهدَّئة ومبرّرة (لا عليك يا بني، إن الحجاب قماش لن يضر ولن ينفع، ثانياً الم تسمع عن مخاطر الحجاب التي ملأت أخبارها التلفاز قبل عدة أيام، وإنه المخبأ الدفين لكثير من الأمراض التي تصيب الدماغ، فأعلنت إدارات مدارس البنات إنَّهنَّ سيمنعنَ الحجاب لأجل غير مسمّى).ولكن أين حدث هذا...؟ )تمتم مخاطباً نفسه، فاستدرك الموقف أبوه وقال له(بني ثائر المهمّ نحن من يعلم لا أنت، اذهب إلى مدرستك ولا تكترث أبدا.
خرج مذهولاً إلى مدرسته، وحين دخل ساحتها انتبه إلى اغلب الطلاب المتناثرين قد خلعوا قمصانهم واكتفوا بلبس البناطيل، منظر لم يألفه من قبل، وأقسم في داخله على أن هؤلاء الطلاب سيواجهون العقوبة التي ستلقيها عليهم إدارة المدرسة، ولكنه صُدِمَ من جديد حين خرجت الإدارة في الاصطفاف الصباحي، لتعلن أن الطلاب الخالعين قمصانهم هم الطلاب الأكثر تطبيقاً للأوامر، وأنهم الأكثر التزاماً واحتراماً للمدرسة، لطم ثائر جبهته متعجباً وسأل احد الطلاب الواقفين إلى جنبه:ماذا يحدث..؟)أجابه الطالب: ألا تعرف.؟ الإدارة أعطت أوامرها للطلاب بخلع القمصان، فهي تسبّب قلة الفهم والذكاء نتيجة مضايقتها اللصيقة بالفؤاد، ولن تساعدهم على الدراسة.لم يصدّق ثائر ما يحدث، وانتظر مدرس التربية الدينية الملتزم، والذي سيضع حداً لهذه المهزلة، دقَّ الجرس ودخل الطلاب الصفوف، وكانت الحصة هي التربية الدينية. حين دخل المدرس، ذو اللحية المقلّمة بإتقان، والوجه الفائض نوراً ودماثة، صُعِقَ ثائر حين طالع مدرّسَهُ يدخل الصف بلا قميص ولا سروال، ووقف في منتصف القاعة الدراسية وبدأ يلقي محاضرة في فضيلة خلع السروال، وإنه من المستحبات أن يخلع الرجل سرواله والمرأة (تنورتها)، مما دفع بثائر إلى الركضِ ورفسِ بابَ القاعة والخروج إلى الشارع الخارجي مهرولاً إلى منزله بلا رجعة.
حين أدار أبو ثائر محطةَ التلفاز، كان المذيع قد انتهى من عرض خبرٍ لجماعة متطرفة تطالب بخلع الملابس، ومن لم يخلع ملابسه نصرة للجهاد، سيواجه عقوبة القتل بتهمة التشجيع على النكوص والتهاون.سأل الشاب الحائر أباه: ما علاقة خلع الملابس بالجهاد يا أبي.؟ )أجابه أبوه:يا عزيزي يعتقد هؤلاء أن الملابس تعتبر ساتراً خبيثاً للأشياء، وان رجوع الإنسان إلى طبيعته الأولى، سيمنع حدوث الكثير من المشاكل، ما أجمل أن نرجع إلى طبيعتنا /صفائنا/على طريقة هؤلاء الفتية المجاهدين).لم يقتنع الشاب أبداً بما يدور حوله، فنهض كالمخبول لابساً ثيابه التي تأملها طويلاً، وخرج من المنزل حثيث الخطى إلى جامع المدينة التي يقيم فيه شيخ جليل الصلاة، وله كلمة مسموعة لدى الجميع، دخل ثائر الجامع وكاد يقع على الأرض حين رأى الناس تصلي خلفه عُراة لم يرتدوا شيئا، تمالك أعصابه، ووقف ينظر إلى الشيخ الذي اعتلى المنبر عارياً(ربي كما خلقتني)، وهو يتحدث للناس عن فضيلة خلع الملابس، وإن الله سيحشر الناس عُراةً يوم القيامة، وإننا يجب أن نتعرّى في هذا الوقت، لكي نرجع إلى سابق عهدنا الأول، منذ أن خلق الله آدم، كان عارياً ولم يرَ عورته إلا بعد الخطيئة، وأننا بخلعنا ملابسنا سنثبت أننا غير مخطئين بإذن الله.خرج الشاب مهرولاً وهو يرى الناس في شوارع المدينة عُراة، البقال يبيع الفاكهة وعورته ظاهرة، وامرأة تدلى نهداها وهي تسير غير مكترثة، شرطي المرور وقف عارياً في منتصف الشارع، ينظم سيرَ السيارات التي يقودها رجال عُراة، الطالبات والطلاب يسيرون في الشوارع عُراةً يحملون كتبهم، العمال/أصحاب المخابز/الأساتذة /النجارون..الخ.كل الناس بدوا غير آبهين للموقف، ولا ينظر أحدهم للأخر.سوى ثائر الذي هرول في الشوارع محتفظاً بملابسه، وأقسم أنه لن ينزع حتى لو كلفه الأمر حياته.هرول إلى منزله وهو يقول في نفسه: سأحبس نفسي حتى ينتهي هذا الكابوس).وبعد وصوله إلى المنزل تفاجأ بمنظر أمه وأبيه وأخته خارجين من المنزل عُراةً، صُدِمَ /تسمّرَ في مكانه حين أخبرته أمه أنهم ذاهبون إلى زيارة أقربائهم، بدأ ثائر بالصراخ والعويل، وأوعدهم بالويل إن لم يدخلوا المنزل ليرتدوا ما خلعوه من ثياب، فهدَّأته أمه قائلة:بني لا تتهوَّر..إخلع ملابسك واذهب معنا)، ثم قال أبوه محذراً من الفضيحة:انظر إلى نفسك وأنت ترتدي ملابسك..ماذا ستقول علينا الناس.؟)لم يحتمل الابن المنظر فهرب مجدَّداً، تاركاً خلفه صراخ العائلة ونداءهم برجوعه.
فتح الشيخُ المسنُّ البابَ لثائر اللاّهث، ادخله إلى منزله، وهو يعتب عليه لبطئه وعدم زيارته طويلاً، الشيخ المسنّ هو أحد الحكماء في المدينة، يعيش العزلة، فقصده ثائر هذه المرة ليخبره بما جرى، وماذا عليه أن يعمل، جلس الإثنان في زاوية الغرفة المليئة برائحة البخور، حينها لفت إنتباه ثائر أن الشيخ الحكيم لم يخلع ملابسه، ويرتديها كاملة، سأله بشغف:هل ستخلع ملابسك يا شيخ.؟ )أجابه الشيخ مبتسماً:يا بنيَّ العالم في الخارج لا يهمني، فأنا إكتفيت بوحدتي وعزلتي هذه، ولن أكترث لما يدور هناك من ضجيج، إنهما عالمان، فأيّهما تريد أن تسبر غوره..؟ إذا أحببت أن تعايشهم فاخلع ملابسك عند باب بيتي وأخرج، وإذا أردت أن تحتفظ بسترك، فاصنع لك معزلاً كهذا، وعشْ إلى أن يفارقك النفس الأخير.تحيّر ثائر كثيراً، وجالت في مخيلته الأفكار، حين رأى العجوز الشيخ، يحدّق بالأرض وفي عينيه بحران تلاطمت على جرفيهما أمواج الحزم والحكمة، فنهض ثائر على مهل وإتجه إلى الباب، ويداه تراودانه عن ثوبه المتعب، فلم يستجب لنداءات العري في الخارج، بل أقفل الأزرار الأخيرة في ياقته، ورمق الشيخ بنظرة أخيرة، حينها بادله الشيخ ذات النظرة مع إبتسامة خفيفة حرّكت لحيته البيضاء كالثلج، وخرج إلى عزلته وعلى شفتيه قسم طريٌّ بعدم المطاوعة أبدا.
في صباح اليوم التالي فُـزعِتْ الطالبات المحجّبات والنسوة المحتشمات، والباعة المحترمون، وشيخ الجامع المتشح بعباءة الصلاة، ومدرس التربية الدينية الوقور، وجموع الناس المعتنية بالأناقة، وأب وأم وأخت، حين رأوا شاباً مجنوناً يجول في الشوارع عارياً بلا ثياب.