تقلبت عدة مرات في فراشها تلك الليلة، رأت كعادتها أحلاما مزعجة ومقرفة، حين تستفيق تتذكر البعض منها، لم تفهم يوما لم ترى تلك الأحلام المزعجة وبذلك الشكل، وفي تقلباتها السريرية كانت تحس شيئا ما يوخزها. عندما استفاقت على رنين منبه الهاتف النقال، على الساعة السادسة والنصف، تنبهت أن اليوم هو موعد جلسة المحكمة. بعد وقت قصير، نهضت من فراشها، ارتدت ملابسها وفكرت أنها ستذهب مباشرة من المحكمة إلى عملها، كانت قد أخذت في وقت سابق إذنا بالغياب غير أنها تفضل العودة إلى المكتب مباشرة بعد مثولها أمام القاضي. كان البيت فارغا إلا منها، الوالدان على سفر وأختها كانت في إجازة من العمل. لم تتناول فطورها لأنها لم تتعود إحضار الفطور، أخذت سيارة أجرة لتصل إلى المحكمة، تناولت فطورها في مقهى قريب من المحكمة، دخلت بعدها إلى قاعة الجلسات مباشرة. كانت محاميتها قد أعدّتها لهذا اليوم، وأثارت انتباهها أن المحكمة تفتح في التاسعة إلا ربع صباحا وأن القاضي لا يدخل القاعة إلا في التاسعة و الربع و يبدأ بالملفات التي ينوب فيها المحامون حرصا على وقت هيأة الدفاع و لمنحهم متسعا من الوقت يمكّنهم من القيام بالإجراءات الأخرى، وأن الملفات التي لا يتكلف بها المحامون تبقى متأخرة. ملفها يمكن أن ينادي عليه القاضي في أي وقت ابتداءا من الساعة التاسعة، المهم أن لا تتأخر على الساعة التاسعة. عندما اتخذت مكانها في القاعة لمحت محاميتها في الصف الأمامي، ألتفتت هذه الأخيرة، رأتها فمشت إليها، تحدثتا قليلا وأعادت تذكيرها بما يستحسن قوله أمام القاضي. عندما رن الجرس، دخلت هيأة المحكمة المكونة من كاتب الضبط ووكيل الملك والقاضي، وقف الحاضرون. بدأ القاضي المناداة بأرقام الملفات وأسماء المعنيين، كان توالي الملفات اعتباطيا ولا يحترم تسلسل أرقام الملفات ستشرح لها المحامية فيما بعد أن المحامين الكرام الذين يغدقون العطاء على الموظفين يضعون ملفاتهم فوق ليبدأ بها القاضي. كثر الضجيج والهرج والمحامون يُغَطّون هيأة المحكمة ولم تعد هي تسمع ولا ترى شيئا ولا تفهم شيئا، كانت القاعة تضج بالحاضرين، وكان الوقت بداية الصيف وتتطلع هي إلى سقف القاعة، ترى نوافذها عالية ومغلقة، الباب الرئيسي للقاعة مفتوح على آخره والباب التي تدخل منه هيأة المحكمة مغلق وتحت سقف القاعة مباشرة، وراء ظهر الهيأة، يتراءى لها مكيف الهواء، تتفحصه، تعرف أنه ليس مشغلا. تحس جو القاعة خانقا والضجيج يتكاثر. ينتبه القاضي، يطلب من الحارس أن يفتح الباب الثاني للقاعة، دون جدوى.
تظل القاعة تئن من الضجيج ومن الاختناق، شيئا فشيئا تنفرج الصفوف الأمامية وتتراءى لها هيأة المحكمة بوضوح، ويبدأ بعض المحامين بالانسحاب بعد النداء على الملفات التي ينوبون فيها . كانت تتخذ مكانها على المقعد الهامشي للصف الرابع وسط القاعة، كان موقعها يسمح لها برؤية كاملة وواضحة لهيأة المحكمة وحتى الأضناء والمحامين الذين يَمْثُلون أمامها، كانت تمد رأسها باهتمام لسماع ما يجري أمام هيأة المحكمة وتتفحص الوجوه باهتمام. كانت هذه أول مرة تحضر فيها جلسة محكمة. غير أنها لم تحضر كفضولية، بل كمعنية بالأمر، ولا كمدعى عليها ولكن كمدعية، كان ملفها يتعلق بحادثة شغل، وكانت محاميتها من المبتدءات اللواتي لا يطلبن أتعابا كبيرة المبلغ. تكمل الإنصات إلى أنين القاعة، كانت تحس أنين كل الحاضرين رغم أنهم كانوا في سكون ووجوم مطلق، كانت تتأمل تفاصيل لباس الحاضرين، حركاتهم، مشيتهم، لاحظت أن كل الحاضرين ملفاتهم من نوعية ملفها، في لحظة ما أحست بالغثيان وظنت أنه سيغمى عليها، لم تكن خائفة ولا متوجسة فهي تعرف أنها صاحبة حق غير أنها يمكنها أن تحصل عليه كما يمكن أن لا تحصل عليه، على حسب....ليس هذا ما كان يشغلها.
هذا الجو المقيت الذي يسود القاعة، أناس يأملون في الحصول على حق قد يحصلوا عليه وقد لا، ورغم ذلك فهم يلجئون إلي المحكمة رغم كل المضايقات التي يتعرضون لها ورغم بطء سير ملفاتهم، رغم كل المعوقات من كل نوع ومن أي نوع والتي تحول دون إنصافهم، فهم يذهبون إلى ممثلة العدالة والحق العام فقد يأتي يوم وتنصفهم. فكرت أنها إذا أغمي عليها فسوف يؤجل ملفها لأن الجلسة كانت جلسة سماعها وهي تسرد الواقعة. استجمعت قواها، أخذت نفسا طويلا داخل ملابسها لتتفادى تنفس الهواء الجاري بالقاعة.
وفي ذهولها هذا و تيهانها، اصطدمت بعينين القاضي يلحظانها بطريقة خاصة، حولت نظرها وانهمكت في تتبع مسرح الأحداث. لاحظت مرة أخرى نظراته لها، كان يستغل انشغال كاتب الضبط ووكيل الملك و الحارس في الاستماع إلى الماثل أمام هيأة المحكمة ويعاود النظر إليها. كان في الأربعينيات من عمره، لا شيء يميزه عن الرجال الآخرين في هذا البلد، كان يضع نظارتين فوق عينيه ولاحظت أنه كان يدير الجلسة في جو مرح حتى أنه ضحك عدة مرات مع المحامين وحتى مع الأضناء. في وقت ما سُمِع ضجيج خارج القاعة، صوت امرأة تصرخ وتندد، كثرت الضوضاء، أصوات أرجل تقترب، لم ينقطع صوت المرأة، بدأ يبتعد، بعدها غاب.
سمعت اسمها واسم محاميتها، نهضت وتقدمت أمام هيأة المحكمة، سألها القاضي عن اسمها و سنها إلى غير ذلك وأسئلة أخرى عن تفاصيل واقعة الحادث، كان القاضي يسألها وهو يتصفح محتويات الملف.
حدّد القاضي تاريخا للنطق بالحكم، تركت القاعة، تبعتها المحامية، كان هذا الملف الوحيد الذي تنوب عنه في هذه الجلسة، افترقتا عند باب المحكمة، توجهت هي إلى مكتبها.
بعد يومين، اتصلت بها سيدة، وطلبت منها الحضور إلى المحكمة لأمر يخص ملفّها، لم تكن المحامية على علم بالأمر عندما سألتها عبر الهاتف. حين وصلت المكتب الذي أشاروه لها، عرفت أن عليها أن تلبّي طلبات القاضي، إذا أرادت تحصيل حقِّها.