منذ أن عدت من رحلتي اليتيمة الى خارج البلاد، قرأت عشرة كتب خلال أسبوعين! كيف لا؟ وقد أدهشني ما رأيت. كم خجلت بنفسي أنا معلّمة التاريخ، الجامعية، التي تظنّ نفسها مثقّفة ومتعلّمة، لم أكن أقرأ حتى كتابا واحدا خلال شهر... أو حتى شهرين! وكم كنت مصدومة وأنا أرى هؤلاء الناس لا يهدرون لحظة واحدة من حياتهم عبثاً، كما نفعل نحن دائما في كل الأوقات، يقرؤون كل شيء في كل الأماكن، وبسطات الكتب والصحف والمجلات منتشرة عندهم في كل الزوايا كمحلات البيتسا والفلافل والشوارما عندنا. يا لرقيّهم وتحضّرهم! إن مشهد الناس المتكرّر أمام عينيّ، وهم في هدوء تامّ يرخون رؤوسهن وعيونهم الى كتبهم وصحفهم خلال الدقائق القصيرة من انتظار مجيء القطار أو السفر فيه، أو عند الإستراحة في مطعم أو مقهى أو حديقة عامّة، بدل الثّرثرة والصّراخ والتلصّص على الآخرين، كما نحبّ نحن أن نفعل كثيرًا، لم يفارق ذهني طوال الرحلة، وقطعت عهدا على نفسي بأن أركض لاقتناء الكتب والصحف حالما أعود! حتى بتّ متشوّقة أن تنتهي رحلتنا وأعود الى البيت، كي أبدأ بقراءة ما فاتني طوال حياتي من القراءة!
زياد لم يهتمّ كثيرا بهذا الأمر الذي شغل بالي عميقا. "لا تقلقي، يا حبيبتي." قال لي، "سيكون أمامك عمر بكامله كي تقرئي ما تشائين من الكتب."
عدنا الى البيت، وشرعت أقرأ بنَهم واشتياق كما لم أفعل في حياتي. إشتريت روايات لكتّاب طالما أردت أن أقرأ لهم وأجّلتها في كل مرة، واستعرت من المكتبة دواوين شعرية ومجلات ثقافية وكتبا عن الأدب والسياسة والفلسفة. اقتنصت فرصة وجودي في البيت خلال العطلة الصّيفية، فكنت أبدأ قراءتي صباحا، بعد أن يذهب زياد الى عمله، أرتمي على أريكتي المفضّلة في غرفة الجلوس مع كوب من الشاي المعطّر بالنعناع وبعض قطع البافلا، وأقرأ كتبي صفحةً بعد صفحة، وفصلا بعد فصل، الى حين اقتراب الظهر، فأقوم وأحضّر بعض الطعام للغداء. ثم آكل شيئا سريعا لسد جوعي وأعود بسرعة الى أريكتي مع كتبي وأبقى جالسة الى حين عودة زياد من عمله... حتى بات زياد يتضايق من الأمر.
"أما زلت جالسة في مكانك؟ ماذا دهاك يا امرأة؟" قال لي بعد نحو أسبوع وقد استاء من وضعي. كان ذلك في صبيحة يوم جمعة، الذي كنا في العادة نقضيه معا فيما مضى، ونبدأه بجلسة على فنجان قهوة.
حاولت التخفيف عنه:
"حبيبي، خمس دقائق وأكون معك."
"أي خمس دقائق يا بنت الحلال؟ أنا أنتظرك منذ ساعة وأنتظر تلك القهوة اللعينة!"
"لا بأس عليك، يا حبيبي. دعني أكمل هذا الفصل فقط ثم آتي اليك وأفعل ما تشاء."
"منذ أن عدنا من تلك الرّحلة لم تتركي كتبك لحظة واحدة. ماذا دهاك؟ لعن الله الساعة التي أخذتك فيها الى أوروبا. لو كنت أعلم أنها ستخرّب عقلك لما فكّرت أصلا في أخذك!"
"أوهوو حبيبي! كل هذا من أجل فنجان قهوة؟؟ متى ستفيق على نفسك وتدرك أهمية القراءة ؟ ألم ترَ الناس كيف يقرؤون في الخارج؟ ونحن هنا، ماذا ينقصنا حتى لا نقرأ؟ ها أنا جامعية ومعلّمة وناشطة إجتماعية، وأنت... أنت عامل نشيط في مصنع، ماذا ينقصنا قل لي! لماذا لا نقرأ مثلهم؟"
"هل ستعيدين لي نفس الموّال كل يوم؟ حسن، إنسي الأمر. سأذهب وأحضّر القهوة بنفسي. إقرئي أنت كما تشائين!"
فذهب وأغلق الباب وراءه، وأنا أكملت قراءة كتابي بهدوء وراحة، دون أن آبه بالقهوة... حتى أتممت فصلا آخر، فأغلقت الكتاب وخرجت إليه.
كان جالسا وحده في الشّرفة يحتسي فنجان القهوة.
جلست قبالته، فسكب لي القهوة في الفنجان. قلت له:
"إنه كتاب رائع يا زياد. عليك بقراءته! كلما أكمل فصلا يشدّني أكثر اليه ولا يدعني أتركه!"
"لا، وحياتك! أنا مشغول جدا هذه الأيام وليس لدي وقت ولا جلد للقراءة على الإطلاق. تكفيني الصحيفة اليومية التي تدسّينها أمام وجهي كل صباح وكأن فيها خبرا سعيدا واحدا يمكن أن يُقرأ! ثم إني لم أعد أجدك منذ أن وقعت في حبّ القراءة أكثر مني. أحسّ أنني فقدت زوجتي حبيبتي."
"أنا أحبّ القراءة أكثر منك؟! سامحك الله يا حبيبي! إذن أنت لم تعرف بعدُ كم أحبّك وأموت فيك! ولكنها... هي حالة وتمرّ."
"حقا؟!"
"طبعا يا حبيبي."
"متى؟"
"لا أدري. ربما بعد أن أتمّ قراءة هذا الكتاب، لأنه أثار فضولي الى حد كبير."
"الحمد لله. طمأنتِني."
بعد مضي أسبوع آخر، لم يعُد زياد يستاء مني كما قبلا وسلّم بالأمر الواقع. بات يلاطفني أكثر، وكأنه يحاول استرضائي بعد أن فشل في تنفيذ طلبي منه بالقراءة! وفي يوم، عندما عاد من عمله، كنت ما أزال غارقة في كتابي، سمعت طرقتيه الحذرتين على باب غرفتي، ثم فتح الباب بهدوء.
رفعت نظري إليه، وقلت دون شعور بالترحيب:
"أهلا، حبيبي."
فابتسم قليلا، وقال وهو يتقّدم خطوة الى الداخل:
"أهلين، حبيبتي."
لم يضِف شيئا. لمست في صمته وحركاته شيئا من التردّد والإرتباك.
"ما بك؟" سألته مستغربة، دون أن أرفع نظري من كتابي.
"لا، لا شيء... أقصد... الأمر ليس مهما جدا ولكن..."
"ماذا هناك؟"
فقال وكأنه يسحب من جوفه الكلمات بعسر: "حبيبتي... كما تعلمين، أنا لا أمانع أبدا أن تقرئي الكتب، لم أمانع يوما أن تقرئي. إقرئي كما تشائين، يا حبيبتي، متى تشائين، وبالقدر الذي تشائين، ولكن... لدي طلب صغير منك... لو سمحت. عندما تريدين أن تقرئي... أرجو... إن أمكن... أن لا تجلسي على الشّرفة."
رفعت عينيّ اليه بتعجّب بالغ، وقلت بنبرة لا تخلو من السخط:
"وما يهمّك أنت اذا كنت أقرأ على الشّرفة أم على السّقف؟!"
"أمل، حبيبتي، عندما تجلسين على الشّرفة... الناس... يرَونك، وأنت تعلمين كم جارةً متربّصة لدينا هنا في الحارة، وتعلمين كم هنّ جاهلات، لا يفقهن شيئا في الثقافة ولا يعرفن أهمية القراءة كما نعرف نحن."
"وماذا لو رآني الناس أقرأ؟ وهل أنا أفعل شيئا معيبا؟"
"لا، طبعا. ليس هذا قصدي."
"ما قصدك اذن؟"
"قصدي..." هزّ رأسه يمينا وشمالا، كأنه يسترجي شيئا ما أن يسعفه بالكلمات. ثم أخذ نفسا عميقا وقال: "فتّحي مخّك قليلا، يا حبيبتي، وافهمي على كلامي."
"ماذا أفهم؟ قل ما لديك بسرعة."
"حبيبتي، أخبرتني أمي اليوم أن جارتنا أم مسعود كانت عندها في زيارة، وقالت لها إنها رأتك في طريقها الى هناك وأنت جالسة على الشّرفة تقرئين كتابا. وبقيَت عندها ساعتين كاملتين. وبعدما عادت من بيتها، رأتك جالسة على شرفتنا في نفس موضعك وتقرئين كتابك! ومن شدة استغرابها مما رأت اتّصلت بأمي وزفّت عليها الخبر السعيد مما رأت وقالت لها مستهزئة: يبدو أن كنّتك تحبّ الجلوس والكسل! أما لديها عمل أهمّ من القراءة وهدر الوقت؟! فتضايقت أمي من كلامها كثيرا واتّصلت بي وأخبرتني بما حصل. أيرضيك ذلك؟ أيرضيك أن تفضحنا أم مسعود في القرية بهذه الطريقة؟!"
قلت بامتعاض: "
هل ستضع رأسك في رأس أم مسعود؟ أنت تعرف أنها جاهلة ومتخلّفة ولم تقرأ كتابا واحدا في حياتها."
"طبعا أعرف، أعرف أنها جاهلة ومتخلفة ولا تفهم شيئا في الثقافة والحياة، ومن مثلي يعرف ذلك؟! ولكن..."
"اذا ما المشكلة؟"
"أنا فقط لا أريد أن تقعي فريسةً في لسانها وتصبحي علكة في أفواه جاراتنا."
"لست خائفة منها ومن مثيلاتها!"
"صحيح، مؤكّد، يا حبيبتي. أنا أعرف كم أنت محقّة وصادقة. ولكن أرجوك أن تفعلي ذلك من أجلي. هذا طلبي الصغير منك، يا حبيبتي. أرجوك أن تفهميني."
"حسن، حسن، فهمتك." قلت بتقزّز.
فانفرجت شفتاه عن ابتسامة واسعة، وقال: "
شكرا لك، يا حبيبتي. كم أنت لطيفة ومتفهمّة! حقا أنك زوجة رائعة؟! ياه! لو تعلمين كم أحبك! مهما قلت لك لن تستطيعي أن تعرفي... كم أحبك!"
"أعرف. وحياتك أعرف. والآن، دعني لوحدي قليلا."
"طيب، كما تشائين."
خرج من الغرفة وعلى شفتيه ترفرف ابتسامة كبيرة من الرضا. ولم تمضِ لحظتان حتى عاد وفتح الباب ووقف معتذرا ومرتبكا:
"عفوا، حبيبتي.... مممممماذا عن الغداء؟"
"إنتظرني قليلا، سآتي بعد هذا الفصل وأحضّر لك الطعام."
"شكرا لك، حبيبتي. الله يعطيك العافية."
وعدت الى كتابي من جديد.