الليل يتسكع في طرقات القرية التي بدت شبه مهجورة والقمر يراقب من بعيد تحركات بعض القطط الجائعة، وومضات سكائر بعض كبار السن الذين يتأخرون في النوم متكئين على أذرعهم فوق الاسرة الحديدية الموزعة في باحات الدور منذ نهاية فصل الربيع، في لحظات تأمل لما فات وما سيأتي، وثمة امرأة تجلس وحيدة، ساندة ظهرها الى جدار البيت الطيني الذي ترك الزمن بصماته عليه وتركها وحيدة فيه، كانت قبالة شاطئ النهر ترقب عودة ابنها خليل الذي ركب البلم قبل سنتين حين كان القمر بدراً كما هو الأن، وراح ينشر شباكه وينصب كمائنه للأسماك التائهة وسط نهر دجلة الذي بدأت شواطئه تتلاشى بسبب كثرة السدود التي انشأتها الدولة التي ينبع من اراضيها حتى بدى كأنه يشق طريقه بصعوبة، في كل مرة كان خليل يجلب كيسا من السمك يأكلون قسما منه ويبيعون القسم الاخر لتدبير أمور معيشتهم، كانت أمه تطلب منه بأستمرار الاستماع الى اخبار الحرب عبر الراديو وتقصي اخبار أبيه الذي طالت غيبته، كان خليل منذ الصغر يقول لأمه أنه سيكبر ويحافظ على أسم أبيه الذي انقطعت أخباره أبان الحرب، قيل لهم آنذاك أنه دخل منطقة الأرض الحرام - المنطقة الفاصلة بين الجيشين - خلال الليل ليجلب جثة زميله الذي قتل بسبب أنفجار لغم قبل غروب الشمس ولم يرجع، هل ننتظر، هل ننسى، هل نعيش حياتنا، هل.. هل، اسئلة تطرق باستمرار على رأسيهما، لكن أم خليل مازالت تتأمل عودة زوجها، وترقب شاطئ النهر بانتظار عودة خليل، قبالة الشاطئ كانت تستذكر حكايا أبو خليل أثناء أجازته بين شهر واخر، كان يحدثها عن سهره المتواصل وهو يراقب جهة العدو، وكيف تسقط القنابل وترتطم بالارض وتنفجر لتقتل بعض من حوله من الجنود، في كل مرة كان يتمنى ان تكون له القدرة على الامساك بالقنابل لكي لا ترتطم بالارض ويحصد انفجارها ارواح بعض زملائه الذين يتركون جيوبهم مليئة بصور زوجاتهم وابنائهم وحبيباتهم، كان يقف فوق كل جثة من جثثهم ويجمع حاجياتهم في اكياس يوصلها الى ذويهم لانه كان يعتقد ان هناك من ضعاف النفوس من يسرقون حاجيات القتلى اثناء نقل الجثث من مكان لاخر، وفي فترات هدوء الجبهة كان يسترق لحظات للتأمل، ويحلم بأن يكبر خليل ويصبح صياداً محترفاً ليعينهما على مصاعب الحياة، ويتحقق الحلم الأكبر لأبو خليل بنهاية الحرب واحالته على التقاعد، ليجلس في البيت مع زوجته وأبنه، حيث لا أصوات قنابل، ولا أصوات رصاص، ولا جثث قتلى، ولا أرض حرام، ولا سماع لزعيق الذين يستنجدون بالصدى، وبدعاء الامهات عندما يشتد وطيس الحرب، ولا أنين لجرحى ينزفون حتى الموت، كان الموت لا يمهلهم حتى لترك رسالة ولو ببضع كلمات لام او لأب او لحبيبة او حتى للوطن الذي يموتون من اجله، ثمة دموع ساخنة تتهادى بين الأخاديد التي حفرها الزمن في وجنتيها،لا شيْ يمس تلك الوجنتين منذ سنين سوى الشمس الحارقة ودموع تتفلت من عينيها كلما خطر لها خليل وأبوه، وكلما سمعت طفلا ينادي أبيه في البيوت القريبة، تتلقفها أغفاءة، يأتي خليل حاملاً كيس السمك، يسألها... هل ثمة خبر عن أبيه، تطلب منه فتح الراديو ليستمعان الى أسماء الأسرى، تفتح عينيها وتنظر بأتجاه الشاطىء ... النهر لا يغدر بأصدقائه، النهر كان وفيا دائما، ولكن لماذا تأخر خليل كل هذه المدة، أيعقل أن النهر لا يدري بما جرى لابو خليل، أم أنه يدري ولا يريد ان يخبرنا.....