لماذا تركنا الصالات الفسيحة ونزلنا للقبو الضيق؟ مكان يتسع لاثنين فقط، أي بمساحة متر ونصف طولاً ومتر وربع عرضاً، الإحساس بالضيق اعتراني من انخفاض السقف أولاً، ثم من صعوبة مدخله الخلفي الذي نزلنا منه للقبو، لم أكن قد تنبهت لمخرج القبو بعد، برغم المشقة في لحاقي به، إلا أنني وجدت نفسي جالساً منسجماً مرتاحاً في حديث طويل مع صديقي سعد الدين. وما حيرني هو أنه ليس من طبيعتي موافقة أي شخص دون قناعة مني إلا بعد نقاش ومقارنات بين ما أراه وما يراه، وبين المكسب والخسارة، لكنني هذه المرة وجدت نفسي تابعاً، وحين راحت السكرة وحلت الفكرة كما يقولون، فطنت للضيق الخانق، تنكدت كثيراً لأنني لم أستفسر منه عن سر إدخالنا لهذه العزلة والوحشة التي نقبع بها في المكان الذي جرّني له، انقلب المرح والسعادة بلقاء سعد إلى إحساس بأنني في سجن خانق.
دخلت الجامعة ضحى ذلك اليوم في أجمل لباس، شاب ناضج في سن الكهولة، معتدل القامة أمشي، مشدود الجسم والعضلات، أرتدي بذلة نظيفة أنيقة غالية الثمن، أبلغتني إبنتي انها اشترتها لي هي وزوجتي من محلات (بيلك Belk ) الأمريكي، وتحتها قميص غالي الثمن أيضاً، وبربطة ارستقراطية بلغ ثمنها خمسة وخمسون دولاراً، وكلف القميص أكثر من ذلك، في مساء اليوم السابق قررت معاودة الدراسة في الجامعة لإتمام مقررات الشهادة الجامعية التي حلمت بها طول حياتي، تلك المادة اللعينة هي التي أعاقتني عن التقدم، فأذابت حماسي للدراسة، إنها مادة رياضيات الكالكولاس (التكامل والتفاضل) ثم القانون التجاري في الدرجة الثانية، لم استطع إتقانهما كغيرهما من المواد المطلوبة لإتمام شهادة الدكتوراة، فاضطررت للتوقف عن متابعة الدراسة مكتفياً بشهادة الماجستير، هنأني الأهل عليها واحتفلوا بي وغنوا وزغردوا، لكنني كنت في أعماقي أؤنب نفسي على قصوري هامساً (قصر باع يا أزعر) وكان اكتفائي بما حصلت عليه حتى لا أفشل ويتم فصلي من الجامعة بفضيحة ترافقني مدى الحياة.
وجدت نفسي أمام ابواب الجامعة ثانية بعد انقطاع لثماني سنوات، كنت خلالها أحتل مركزاً مرموقاً في إدارة شركة تجارية متوسطة، وأحظى باحترام كبير وتقدير من أصحاب الشركة ومن العملاء المستهلكين ومن الموردين الأجانب، في الأيام الأخيرة داهمني إحساس داخلي بالنقص، ففكرت باللحاق بأصدقائي الذين نجحوا وأكملوا الدراسات الجامعية العليا، كنت ناجحاً جداً في عملي الوظيفي حتى أنني وصلت مركز المدير العام للشركة، لكن إحساسي بعدم حصولي على شهادة الدكتوراة ظل ينغص عليّ حياتي، ويشعرني بالتضاؤل أمام نفسي وأقراني ممن يلاعبونني طاولة الزهر والتركس والطرنيب، وأهزمهم جميعاً، لكنني مهزوم من الداخل أمامهم.
في صباح ذلك اليوم وجدتني أمام باب الكلية، أخلع معطفي وأحمله على يد، والحقيبة السامسونايت الأنيقة الرشيقة في اليد الأخرى، توقفت أمام احواض النباتات والزهور المزروعة أمام مبنى الجامعة، كانت الأحواض مبنية بأشكال هندسية فريدة وجاذبة، فاحت روائح زهور جميلة الأشكال والألوان، وبهاء ألوانها وتمازجها راقص مشاعري وأناقتي فأحال أحاسيسي قصيدة بليغة حداثية ومثيرة، والفتيات الضاحكات والعابثات المتلاصقات بشباب يفيضون حيوية وحماساً وإثارة، مما أكمل صورة الفرح في نفسي، كان أمامي بابان، باب يوصل لقاعة المحاضرات التي أريد مباشرة، وباب يدخلك لموزع عام وواسع، يتفرع منه ممرات في اتجاهات مختلفة، اقتربت من باب القاعة الخارجي، فتحته قليلاً فإذا بمقاعد الطلاب تقترب كثيراً منه، ومنضدة المحاضر في طريق المرور، لم أشأ مقاطعة المحاضر فقررت الوصول للقاعة عبر المدخل الرئيس والممرات الداخلية الطويلة.
كيف تبعت سعد الدين لذلك المكان الضيق، أو هل ضاقت عليه صالات الجامعة وملاعبها وحدائقها وساحاتها، فلم يجد مكاناً خاصاً هادئاً إلا ذلك المكان الضيق وقليل الإنارة، مكان أثري على الطرف الجنوبي الشرقي لساحة الجامعة الخلفية، يعجبك أن تتأمله وتعجب من قدرة الناس الخارقة في الأزمان القديمة، وكيف استطاعوا ترتيب حجارته ورصفها بمهارة، لتقف صامدة ثابتة آلاف السنين وما تزال تتحدى القرون لتظل معلماً أثرياً مهماً، ولغزاً عصياً على العقل البشري الحديث، ولماذا تلك الحصانة والأدراج والسراديب تحت مستوى سطح الأرض؟
في صالة الجامعة الرئيسة الكبرى وجدت صعوبة في الاهتداء للممر الذي علي أن أسلكه للوصول للقاعة التي أريد، حاولت معرفة الطريق بنفسي فوجدت أن الأمر سيتطلب وقتاً طويلاً، فاختصرت الأمر واستعنت بشابة جميلة الوجه لكنها ممتلئة الجثة، أدفع باب القاعة بلطف وأقف منتظراً الإذن من المحاضر، ولدهشتي وجدته من معارفي، ليس صديقاً لكننا نعرف بعضاً وتلاقينا في المقهى أو مناسبات أخرى، وكان يبدي احترامه لي كلما التقينا ويقدرني، ففوجئ هو الآخر بوجودي، فأبدى سروره باستقباله لي، لم يسلم بالأيدي لكنه وجد نفسه يتصرف بعفوية المدرسين التقليديين، فطلب من الطلاب الشباب والصبايا الوقوف احتراماً للطالب الضيف الذي في عمر آبائهم، تذكرت وقتها أنني في الثامنة والأربعين من العمر، وعمر الأستاذ المحاضر كان في أواسط الثلاثينيات، ما إن وقفوا احتراماً لي، حتى وجدت نفسي متشنجاً متحمساً منفعلاً، أنزلت حقيبة يدي على الأرض بتؤدة وحرص، تململت وضممت جسدي وشددته، وقفت أمامهم وقفة عسكرية مهيبة، ورفعي يدي بجانب رأسي بقوة في تحية عسكرية، تحمس الطلاب والطالبات حين شاهدو ذلك مني وصفقوا لي، لم أشاهد شخصاً واحداً يعترض على أستاذه، ولا تمرد أحدهم فلم يقف احتراماً للضيف واستقبالا له حسب طلب المحاضر منهم. حين خرجت للساحة بعد انقضاء المحاضرة، صادفت سعد الدين وسررت بلقائه بعد سنوات طويلة، سرعان ما تجادلنا بعدها حول السياسة والعمل والصناعة والتجارة وشئون أخرى محرمة، أو مسكوت عنها في البلد.
أتوجه إلى ركن خلفي في صالة المحاضرات، وأثناء جلوسي، أحاول تفتيح مسالك عقلي لحديث الأستاذ المحاضر، أتابع شرحه بعناية وتركيز حتى يسهل عليّ فهم المادة حين أقرؤها في الكتاب المقرر، أو من أي كتاب آخر في مكتبة الجامعة، ومع محاولات التركيز كان الشعور بالسعادة يعاودني لأنني عدت لتنفيذ رغبتي في إكمال دراستي الجامعية العليا، وكانت نظراتي تشتت أفكاري أحياناً وأنا أتأمل الشباب يتغامزون مع الفتيات وخاصة الجميلات منهن، أما الفتيات الست العاديات فكنّ في تركيز تام على المحاضر، والجميلات الأربع كن منشغلات بتلقي الإشارات والرسائل اللاسلكية والهمسات من أبناء الأغنياء، وانا ابن المنطقة وأعرف كل واحد من طلاب الصف، ولخبرتي في الفراسة كنت أعرف أن ذاك المخلوق هو ابن فلان، وتلك الفتاة من العائلة الفلانية فور تدقيقي في ملامح الوجه، وهذه الفراسة جعلتني لا أحس بطول المحاضرة، بل شعرت أن الوقت قد مضى مسرعاً، ومرت الخمسون دقيقة التي كانت باقية من وقت المحاضرة وقت دخولي وكأنها ربع ساعة.
في القبو الأثري بعمق اربعة أمتار أو خمسة تحت الأرض، تساءلت في مرارة وإحباط وندم، ماالذي جعلني أتبع هذا الإنسان إلى ذلك المكان، وما الذي جعله يفضله على الذهاب لمنزله أو في مقصف الجامعة وصالاتها الفسيحة وحدائقها الغناء؟ موقع أثري حصين تحت الأرض، ما زال سعد الدين يتضاحك ولا يفكر بالضيق الذي يغمرني، وأثناء خطواتنا مبتعدين عن مبنى الجامعة حكى لي سعد الدين عن شاعر رغب زيارة منزله، فشرح له سعد الدين طقوساً جديدة في بيته، فإن أصرّ على دخول منزله فعليه أن يشرب محتويات إبريق القهوة المقدم له كاملا، فسأله الشاعر أبوعلاوي
وماذا لو طلبت الشاي أو أي شراب آخر.
القهوة اولاً، بعدها تسأل عن رغبتك ، فإن قيل لك إنه موجود قدمناه لك، ثم يواصل سعد حكاية أبوعلاوي، يخلط هرجه بضحكات كما هي عادته، لا تدري أهي ضحكات سخرية أو سعادة أو حيرة أو تشجيع للسامع لمتابعته.
قال سعد
لم أكن راغباً وقتها في العودة لمنزلي، وأجد وجودي في الجامعة تحرراً من قيود أوقعنا أنفسنا بها، سألني أبوعلاوي قائلاً
هل ستبقى أنت متفرجاً؟ ولماذا لا تشاركني شرب القهوة
توقفت عن شرب القهوة منذ عامين، ظروف فوق إرادتنا أوقفتني عن شرب القهوة، ونظام منزلنا أن يشرب الزائر كل ما يحتويه إبريق القهوة كاملاً، لأنها قوانين داخلية لا يمكن كسرها ولا التنكر لها.
أتشاركني بشرب فنجان واحد، وأنا أشرب فنجانين.
بل عليك أن تشرب الفناجين الثلاثة أوالأربعة كلها حسب حظك، قلت لك إنني توقفت عن شرب القهوة للأبد
لا نريد القهوة ولا الشاي، ألا يوجد عندكم بطيخ أو عنب بدل القهوة، أو أكتفي بشرب الماء، ثم لماذا الشرب أصلاً؟ فأنا لا تطلب نفسي أي شراب هذا اليوم
إن طقس القهوة العربية مفروغ منه في منزلنا، ويبدو أن الناس يتأثرون كثيراً بما يحيط بهم، وهذا ليس من وضعي، وهو أمر ملزم وحتمي.
وماذا لو حملت فنجاني وذهبت للحمام
لا حراك قبل إنهاء مشروب الضيافة، ثم إن الرقابة عندنا أشد من أي رقابة في أي بلد عربي، حركاتك وسكناتك مرصودة حتى وأنفاسك. يبتسم أبو علاوي وهو يهز رأسه غير مصدق ولا مقتنع بما يسمع، ثم تنبه فجأة لشخص بعيد عن مكاننا فنادى عليه، اقترب الرجلان من بعضهما، وانشغلا في حديث وهما يبتعدان عني، فأراحني أبوعلاوي بابتعاده وانشغاله من معاناة ذلك اليوم.
حاول بعض الطلاب والطالبات الاقتراب مني والتحدث إليّ بعد انتهاء المحاضرة، أبتسم لهم وفي نفسي رغبة أن أسأل أياً منهم عن أهل الطالبات الجميلات، أدركت وقتها كيف يعلق المحاضر مع إحدى طالباته، وقد يصل الأمر إلى زواجهما، كما حصل في حالتين حسب معرفتي بعائلات لي علاقة بهم.
يمشي سعد وأنا أحاذيه في ساحة الجامعة الواسعة بين أحواض الزهور، وفوق ساحات العشب الأخضر يشرح لي عن ظروفه وأسباب اختفائه وأخيراً دراسته، لكنه كان يتنبه لأي طالبة نمر بها، ويتجمد لثوان ثم يتنبه أنني أرافقه فيحاول مواصلة حديثه، لكنه كان يفلت أحياناً في وصف إحداهن وخاصة من ترتدي لباساً بفتحة واسعة حول العنق، أو بانخفاض يظهر الوادي العميق بين الجبلين، يقطع حديثه غير الممل ويعلق ولو بكلمة واحدة، مثل (منحدر خطير، أو حاجة تدوخ، أو أحدى نعم الله المتحركة على الأرض،) يعرف أنني أترك الناس كل إلى شأنه، فذكرته بكلام كان يواجهنا به في مناسبات سابقة، إذ يقول (فليضربن بجلابيبهن على نحورهن، أو بخمورهن) لا يتخلى سعد عن ضحكه وابتساماته الساخرة التي ينثرها يميناً ويساراً، بسرعة أو ببطء، لمن يحيط به أو يسمعه، إنه سعد الدين ولا يتغير، وحتى لو أراد معارضتك برد جاد أو حاسم، فإن كلامه يكون مصحوباً بابتسامة وربما يصاحبه ضحكة بنبرة مسموعة.
ضاقت أنفاسي في ذلك القبو الذي تأتيه إنارة كابية من ثقب علوي صغير، ويبدو أن سعد الدين معتاد على اللجوء إليه، مما جعلني أتذمر من وجودي بصحبته هناك، وصرت ألح عليه للإسراع في إخراحنا إلى سطح الأرض، يتململ ويستجيب في بطء وهدوء، حنى رأسه وعلى أربع تقدم صوب المدخل الضيق القريب من موطئ قدميه، تضايقت من بطء تحركه وبرود أعصابه، فدفعته مدعياً المزاح كي يسرع في تحركه وخروجه، فاصطدمت صلعته بعتبة المدخل العلوية، صاح مشتكياً وعاد لجلوسه ثانية، ندمت وقتها، إذ بدلاً من رغبتي في الإسراع بحركته عاد يتلمس مكان الصدمة، وشاهدت جرحاً ونزفاً خفيفاً لكن لم يسل الدم منه، بل سرعان ما تجلط على باب الجرح الصغير، عاد للتقدم في هدوء ثانية واستطاع النفاذ من الأخدود ممطوطاً كالدودة، وبحركات مرنة رشيقة. ثم قرفص يتأمل كيف سأفعل أثناء خروجي من القبو، تمنيت لو أتمكن من أزاحة إحدى البلاطات من باب القبو، قدرت أنه شبه مستحيل خروجي من ذلك المكان، فزادت أنفاسي ضيقاً وتمنيت أن أرى زرقة السماء على الأقل، كي لا أبقى في الوحدة التي وجدت نفسي بها.