ترتشف آخر جرعة من كأس قدرها، جاحظة عينيها الواسعتين، تتأمّل نفسها في مرآة حياتها، تراها تعبر حولها كما لوكانت لحظة واحدة أوبضع لحظات. تداعب شعرها بيديها ثم تخرج من درج طاولة أمامها علبة ماكياج، تنثر بعض المساحيق على وجهها في هدوء وعجز، دون أي رغبة في تزيين نفسها للآخرين، لما تفعل ذلك وروحها يكسوها السواد والحزن اللّذان طبعا عليها منذ الأزل –لكن اليوم جميل، يوم تنتظره كل الفتيات – لكنها أبدا لم تنتظره، صغيرة جدّا حتى تفكّر في الزواج، صغيرة جدا وأحلامها أكبر، رغباتها أكبر.
تقول في صمت محدّثة نفسها
"سحقا للقدر، سحقا للحياة كلّها، أكان عليّ أن أولد وسط عائلة متخلّفة تدفن الفتاة وهي حيّة، سحقا للزمن، ألم يكن من الأحسن أن أموت قبل رؤية هذه الدنيا التي لا تعطي الحق إلّا للرجل، ولا مكان للنساء فيها، سحقا لكلّ شيء ".
تتنهّد ثم تنظر مرّة أخرى إلى المرآة بمسحة حزن تضيف..
هي النهاية..نهاية كلّ شيء نهاية أحلامي، نهاية آمالي وطموحاتي..وبداية اللّاشيء..ليتني أستطيع إيقاف الزمن، ليتني أستطيع أن أسرق من اليوم لحظة واحدة، لأجعلها ملكي وحدي، وليس ملكا للآخرين.. لكن قطار الزمن لا يتوقف، الماضي والحاضر لم يكونوا لي، ولم أعد أملك مستقبلا، باتت حياتي ملكهم كما استوطنوا عليها في الماضي..
اغرورقت مآقيها بالبكاء، تنزل من عينها دمعة تدلّ على انكسارها كامرأة في زمن القرن الواحد والعشرين..تعبر بيدها على وجنتها وتسحب الدمعة من عليها في خجل وهي تسمع قرع الباب، وكأنها تخجل حتى من دموعها ومن آهاتها، تدخل والدتها وهي تقول ألم تنتهي بعد من تحضير نفسك
تواصل حديثها وهي ترفع الفستان من على السرير
ألم ترتدي فستانك الأبيض، ما الذي تنتظرينه..؟العريس وصل منذ زمن والناس تنتظر..
بقيت صامتة، تدير ظهرها لأمها التي تقف مشدوهة مشرعة سلاح العتاب والانتقاد ضدّها، تودّ لوتصرخ طالبة منها الصمت، متوسّلة لتتركها لحظة أخيرة مع نفسها،وحدها دون أن يشاركها أحد، فقط هذه اللّحظة، لكنها..حتى في هذا اليوم هي مجبرة على التزام الصمت، كما كانت مجبرة على ترك دراستها والتعفن في البيت لإرضاء نزوات والدها وحتى لا تخرّب بيت والدتها التي تعبت كثيرا لبنائه.. رغم أنها بقيت حائرة طوال حياتها متسائلة نفسها نفس السؤال دون أن تجد له إجابة، أي بيت كانت تتحدّث عنه والدتها في ذلك اليوم الثائر الكئيب، ربّما بيت غير البيت الذي تربّت وقضت أسوأ أيام عمرها فيه أي بيت..؟ البيت الذي لا تعرفه أم الذي تعرفه، الذي كانت تصبح وتمسي فيه بالضرب والإهانات، ترى لما لم تستلم والدتها ؟ لما لم ترمي السلاح وتترك كلّ شيء وتجمع ما تبقى من فتات كبريائها وكرامتها..؟ ترى لما بقيت متمسكة بوالدها رغم الحرب المعلنة بينهما لمدة 25 سنة، عمر طويل بالنسبة لامرأة، حرب عنيفة للحب.
لم يعد كل هذا مهما اليوم، ما تتذكره في هذا الوقت بالتحديد، هووالدها الذي كان منغمسا في قوقعة العادات والتقاليد، التي فصّلوها على قياسهم، كان يقول دوما بصوته الخشن الرّهيب
المدارس للرّجال، أمّا الفتيات مكانهنّ البيت قبل أن تنتقلن إلى ديار أزواجهن..هي سنة الحياة..
أيّ سنة هذه التي اختاروها وفقا لأهوائهم وانفعالاتهم المتطرّفة والعقيمة. وأيّ قاعدة تلك التي يتقيّدون بها ويحكمون على الأشياء بغير دراية ولا معرفة.
عبرت فجأة بين أفكارها المتشتّتة، ذكرى مؤلمة،حين دخل عليها والدها يوما، وهوعائد من عمله، بينما كانت تجلس هي على بساط من صوف تكتب وظائفها اليومية، اقترب منها كوحش مفترس وهويقول لا تجهدي نفسك، الدراسة بالنسبة إليك كانت فقط لتعلّم كتابة اسمك والتوقيع، فقريبا جدّا ستوقّعين عقدا، يجب على النساء المحظوظات مثلك أن تمرّ عليه في حياتها..اغلقي إذن كتبك وضعيها جانبا، لن تحتاجي إليها بعد اليوم..
كان ذلك آخر يوم تذهب فيه إلى المدرسة. لكنّها لم تع حينها أنّها في ذلك اليوم قد وقّعت على عقد اغتيال كل طموحاتها وآمالها، لم تع أن تلك اللّحظة هي بداية حداد أحلامها..لم تع ذلك إلّا اليوم.
تنظر إلى والدتها التي تجلس على حافة السرير، تداعب الفستان الأبيض، كأنها طائر مكسور الجناح. ترمقها بعيون حزينة، وقلب مليء بالكثير من المرارة وخيبة الأمل واليأس، بعد لحظات من الصمت تقول
أمّي..
ترفع والدتها عينيها المثقلتين وكأنها تحاول التهرّب من ابنتها، متفادية التقاء عينيهما.. تواصل بسؤال لم يكن متوقّعا، سؤال يفجّر طوفان الحياة في لحظة، وقد فجّرت قلب والدتها في برهة.
لما تخلّيت عنّي..لما تركت أمواج الحياة تأخذني وتأتيني ؟ هل أتيت اليوم لتسدلي الستار على مسرحية عمري، كتبتها أنت ووالدي وأخرجتماها معا، واليوم وصلنا للنّهاية..
تنظر إليها والدتها بعيون منكسرة..وصل كلام ابنتها في عروقها مثل الخنجر، أوسيف حاد..تنهض من مكانها وتقول
أسكتي..أنت لا تعرفين معنى الحياة..أنت لا تشعرين بمدى حظّك اليوم، الكثيرات من الفتيات في عمر سنّك يحلمن بأن يكننّ اليوم في مكانك، يرتدين مثل هذا ويفتح لهنّ قصرا من قصور الجنّة..احمدي ربّك وارتدي ثوبك الآن، يكفيك تخاريف
هل تعلمين ما كان حلمي في يوم من الأيام، كنت أحلم الرّقص واللّعب مع النّجوم ليلا وأعانق الشّمس في النّهار..لكن ذلك حرام في قوانين العادات والتقاليد، لكن ذلك خروجا عن الطّريق.هل سألتم أنفسكم يوما كم من طريق للإنسانية عدلتم عنه دون أن تحاسبوا أنفسكم عليه، لكنّكم أسياد ونحن عبيد، ملزمون اتخاذ مسلك حتى وإن كان مليئا بالأشواك فقط لأنّكم أردتم ذلك.
أسكتي..لا تفضحينا..والدك واقف خلف الباب
لما تخافين منه..أ لأنّه يطعمك، فلديه الحق أن يذلّك
سوف تفهمين كل شيء عندما تمضين حياتك مع زوجك..
ما الذي أفهمه أمّي..؟أننا أصبحنا نحن النساء عبيدا لبشر مثلنا..وأنّنا مستعبدات من قبل جنس غير جنسنا..لا تقلقي فقد فهمت كل شيء..لا احتاج إلى الزّواج لأرى الذلّ والمهانة وقلّة الحيل التي تحيين به يوميا، وبدأت أدفع ثمنه أنا منذ سنوات..
تمرّر على جسدها النحيل الفستان الأبيض، تساعدها والدتها على قفله..تدور مقابلة والدتها وتقول
أمّي..لدي طلب غال علي..انتظرته عمرا كاملا..واليوم أنسب يوم لذلك
تتأملّها والدتها باستغراب..تهمس بكلمات متخوّفة من الآتي
قولي يا ابنتي..
ترتمي في أحضان والدتها، وتقول
عانقيني..عانقيني بقوة..ودعيني أنسى أنني ولدت وحيدة وكبرت وحيدة، أنسى أنّني امرأة مرفوضة في المجتمع، دعيني أعوّض سنوات حرماني لك، دعيني أشمّ رائحتك التي وفّرتها لإخوتي الصبيان متجاهلة لوجودي..عانقيني حتى وإن كان ذلك آخر عناق..
لا تقولي ذلك يا ابنتي، أنت لن تسافري إلى نهاية العالم..سوف نزورك دوما..وعد مني.. تنظر إلى والدتها التي كانت تمسح دموعها وتقول بصوت ثقيل ومتعب أنا متأكّدة متأكّدة من أنّك ستزوريني
يُفسد عليهما خلوتهما الأولى، بعد سنين من الشغف واللّوعة، واقفا على العتبة دون أن يقرع الباب حتى، ذلك الذي كان والدها يوما وهويقول
ما الذي تفعلانه هنا..ألن ينتهي هذا اليوم..
ترشقه بنظراتها وكأنها تعيش بقايا أضغاث وتهمس
لا تقلق سينتهي..سينتهي..
يخرج والدها تاركا الباب مشرّعا..تتبعه والدتها في صمت..تمرّ آخر عبرة أمام المرآة لتلملم ما تبقى من شتات عمرها، ثم تخرج مرتجلة الخطى، تاركة حياتها الأخرى خلفها. تقترب من سلالم الفندق حيث يقام الاحتفال ويتواجد المعازيم، خلفها يقف والديها. يسير العريس المعهود بضع خطوات نحوالأدراج مادا يده وهوينظر إليها مبتسما..الجميع يتأمّلها، يتهامسون –أخيرا..إنها جميلة..الفستان رائع..إنها محظوظة – ترسم على شفتيها ابتسامة خفيفة، تتأمّل والديها..تتعانق عينيها مع عيني والدها لأوّل مرّة، يسحبها مديرا وجهه متجاهلا ابتسامتها.
تنزل خطوة شامخة الرّأس، ترفع عينيها إلى السماء، لكنّها تتعثر مع الأدراج، تقصّ حكايتها مع أحلامها الطفولية البريئة، التي بقيت رهينة العادات والتقاليد، استسلمت لها في النهاية ووقعت عقدا أخيرا مع حياتها.
بقي الجميع مشدوهين متجهمين، ينظرون إلى الأرض هنا تستلقي، هناك تتلقّف نفسها الأخير، تحت قدمي زوجها أوالذي كاد أن يكون زوجها، لكنها وقعت كحمامة بيضاء غرّ بها الصّياد ولم تقع ذليلة تحت أقدام الرّجل الذي اختاره والدها على مقاسه وحسب مصالحه. الجميع مستسلمين للحادث، يحومون حولها وكأنهم منوّمين مغناطيسيا، يحدّقون بها في صمت. لم تغب عن شفتيها الابتسامة، وكأنها تعمّدت أن تكون نهايتها أجمل من عمرها الضائع، وأن يبقى هذا اليوم خالدا، مختصرة حياتها بابتسامة.