وبكيت وأنا رماد
شيء ما يكتسح ذهني ويختفي فجأة. يعلن عن نفسه داخل قلبي، يسبح بداخل روحي، يناديني باسمي، يستدعيني لزيارته ثم يختفي فجأة.
شيء ما يحصل لي في حياتي لا أعرف كنهه ولا طبيعته يجرفني إلى حيث لا أعلم. يقود سفينتي إلى مرفأ أجهل مكانه. يطير بي نحو كون لا أفقه فيه. يدفعني مع تيار الأنهار والبحار لكن إلى أين يا رب؟
قوة خارقة تأخذ قلمي وتدون ما تحلم به ساحرة أحلامي . قوة خفية لا أعرف ما هي تثير لدي تساؤلات حول هذا المسار الذي أنا فيه والذي لا أعرف من وضعني في بدايته بعد أن تجاوزت الأربعين! شيء غريب يحصل لي وأنا على عتبة الخمسين من عمري.
ما هذا الشيء الذي يزلزل كياني وقضبان أقفاصي والذي تكتسح أمواجه عقلي وأفكاري؟ هل هو من عند السماء أم من عند أهل الحل والعقد بعالم الأرض؟ هل هو وحي من الله أم من البشر؟
ما هذا الذي وقع لي وأنا في سن الخامسة والأربعين؟ إذا كان من عند الله فليخترق ما أراد من الجسد والعقل والجلد والعظام. أما إذا كان يستمد جذوره من وحي الشيطان فليتركني و شأني فلا حاجة لي به.
وبعد أيام وليال من التقصي داخل كهوف أسئلة لم أجد لها جوابا وضعت الورقة أمامي وأخذت القلم واستعدت لاختراقها لأنقش عليها ما يوحى إلي من إلهام وإبداع. فجأة شب فيها حريق أتى عليها في ثوان.
قلت في نفسي إنها صاعقة نزلت من السماء ثم وضعت ورقة أخرى أمامي وهممت بالهجوم عليها واكتساح جسدها الفاتن والزج بقلمي في أغوار عذريتها. لكن، مرة أخرى، شب حريق فيها حتى هي حولها إلى رماد.
فكرت أنه شهاب نزل من السماء تابعاً أحد الشياطين وأن المعركة وقعت فوق ورقتي وأن هذا شرف لي ثم وضعت ورقة أخرى أمامي لقيت نفس المصير فقلت إنها لاشك اقترفت ذنوباً كثيرة وما هذا إلا جزاؤها. وضعت ورقة رابعة أمامي احترقت بدورها. لم أقل شيئاً لأن قوة خفية همست بداخلي أن الحريق المقبل سيشب في جسدي وما علي إلا الانتظار وضبط النفس.
لم تمر إلا لحظات حتى شبت النار في فقلت وأنا أتحول رويد رويداً إلى رماد ﺇني لا شك قمت بأعمال تتنافى وقيم الدين وإني أستحق ما يقع لي.. وبكيت و أنا رماد. بكيت وأنا رميم وأنا أطلال وأنا تراب وأنا دخان وأنا لا شيء. بكيت وأنا نادم وأنا أعوذ بالله.
بكيت وأنا أشهد ألا إله إلا الله، وأنا أطلب المغفرة وأنادي على محمد ليكون لي شفيعاً. بكيت وأنا أطلب من والدي أن يتوسط لي، وأنا أتضرع إلى الله. بكيت حتى بكت معي الملائكة والرسل، حتى بكى معي زبانية جهنم، حتى بكت معي حوريات الجنة، حتى بكى معي جبريل.
بكيت ثم توقفت عن البكاء وشعرت بقشعريرة لا يحس بها إلا الجنين وهو يستعد للخروج من رحم أمه .. وأنا أشعر بلذة الوردة عندما تتفتح و تينع .. وأنا أشعر بفرح الأم وهي تسمع صوت ابنها بعد فراق طويل.
توقفت عن البكاء وأنا أبعث من رميم.
توقفت عن البكاء وأخذت أنفض عني غبار الظلام والكفر.
توقفت عن البكاء ووجدتني حيا أرزق أمام ورقتي وقلمي فكتبتُ : أشهد ألا إله إلا ّالله وأشهد أن محمداً رسول الله.