في كل يوم وأنا أعبر الممر بين غرفة الملابس، وصالة التوزيع إلى الغرف أود لو أشكر المصممين الذي وضعوا أسس تصميم غرف العمليات حتى جعلوها مكانا جديرا بالحب، وأفكر أني أود لو كنت واحدا من هؤلاء الذين يذكرهم الناس بالشكر حين يرون شيئا متقنا وجميلا ويستحق الحب.
قد يكون ما حولي مألوف في مستشفيات كثيرة، الأرض زرقاء هادئة بغير لمعان، والجدران بين الأخضر والأزرق، والنور ضافٍ في المكان، ولا صوتَ سوى حفيف الأحذية الخفيفة على الأرض، أو أزيز أجهزة الموجات تذيب عدسات عين أرهقها الزمن، إلا أنني أشعر بامتنان حقيقي كل يوم للذي صمم هذه الحجرات في هذه المستشفى.
صباح الخير يا دكتور.
حضرتك في المستشفى من يوم ما اتبنت؟
ينظر إليّ باستغراب ويجيب: أيوة.
تعرف مين اللي بناها ..
شركة أجنبية .. مش فاكر اسمها ..
طيب .. دخّلوا الحالة يللا ..
أختار دائما الغرفة الداخلية، هي الأوسع والأبعد عن كل حركة. أفحص عين المريض الـمُعلّمة بشريط صغير، أسأله متأكدا أيّ عينٍ سيجري فيها الجراحة، وأنظر سريعا في عينه الأخرى .. يملؤني دائما هاجس أني سأخطئ العينَ المقررة مرة، فأعود أكرر السؤال من جديد.
"انت مش قلت هتعمل لي العملية في اليمين يا دكتور."
أُنهي تعقيم يدي، وتساعدني "رباب" على ارتداء ثيابي، احتجت إلى وقت طويل لأتعلم ألا أخطئ إدخال أصابعي في القفاز من أول مرة دول عناء. كنت أفاجأ بإصبعين معا في إصبع واحدة، وأتعلل باتساع القفاز على يدي .. الآن لم تعد هناك مشكلة، أفرد أصابعي كالمروحة، ولا أنظر إليهم والممرضة ترفع يدها بالفقاز وتشد طرفه على طرف الأكمام.
جُرح صغير بملتحمة العين، ثم أمرّرُ محقنا صغيرا خلف العين أدفع به المخدر، وأنتظر قليلا قبل أن أبدأ ..
لأحكي لكم ما أراه الآن .. نور المجهر مفروش على عين المريض المفتوحة بمشبك يُبعد الجفنين، القرنية تبدو شامخة كأنها قبة زجاج، لا تكف "رباب" عن رشها بمحلول الملح لتظل لامعة لا تجف. ومن خلال القبة تبدو الحجرة الأمامية للعين واسعة، ستائرها مجموعةٌ إلى أطرافها، ووجه العدسة البيضاء من تحتها كأنه ورقة مشدودة.
سأُلوِّن الورقة كلها بالأزرق.
قبل أن أفعل ذلك أكون قد حقنت هواءا قليلا يتجمع بين العدسة والقرنية ليمنع الحبر الأزرق عن قبة الزجاج.
ينساب الحبر من نافذة صغيرة فتحتها في جانب القبة، وأنا أغسله بمحلول الملح. الآن .. تَلوَّن وجه العدسة تماما بالأزرق الباهت .. أمرر له طرف إبرة صغيرة وأجرحه في طرفه .. ثم بطرف ماسك صغير أسحب الجزء الذي تمزق من الورقة برفق وأنا أدور معه، تماما كما كنا نفعل بأوراق "القص واللزق" ونحن صغار، حين كنا نقص دائرة بأيدينا .. أحبس نفسي كلما تقدمت خطوة، أشعر أني أسمع صوت الورق وهو يتمزق، وداخلي صوت يأمره أن يستجيب للاتجاه فيستدير، استدير .. لا تنحرف .. تستجيب الورقة حتى تكتمل الدائرة .. فأخرجها ووأخرج نفَسي الذي كان مكتوما معها ..
الآن يأتي دور الحفار الصغير، تبحث قدمي عن موضع دواساته، يمر "البروب" من الفتحة الصغيرة في قبة الزجاج إلى سطح العدسة الذي بدا مكشوفا، ثم يبدأ نقش الخطوط الأولى على السطح.
تذوب العدسة بغير جهد، تسرع أجزاؤها في التدافع إلى أنبوبته الصغيرة، ويكتمل تشكل الأخدود الأول، ثم تدور لينشق الأخدود الثاني. تتحرر الأجزاء الصغيره وتزدحم على فوهة الأنبوب الصغير لتظهر العلامة المرتقبة .. شمسٌ حمراء مبهجة تضيء من باطن العين .. أحب هذه اللحظة التي ينساب فيها السائل الكثيف مالئا محفظة العدسة وحجرة العين. يتسع العالم برفق معه وأحس أنه يوسع روحي معها، تتشكل المحفظة وتعود القبة إلى زهوها البديع، قبل أن أحقن العدسة الجديدة مطوية، تتحس بيتها الجديد ثم تفرد ذراعيها لينام كل واحد في طرف.
بعد أسبوعين .. يجلس المريض أمام لوحة العلامات .. أنزل بالمؤشر سريعا من سطر إلى الي يليه، وكلما أجاب جوابا صحيحا أحبّه أكثر .. يمين .. شمال .. يمين .. فوق .. ربنا ينورلك طريقك يابني