كتبتَ تقول إنّك لم تعُدْ تقرأ. أنا أفهمُك؛ فبعد أن قرأتَ ألفَ كتاب وكتاب، لا بُدَّ لك من أن (تستريح). أتكلّم عن الاستراحة وكأنّ القراءةَ نوعٌ من الأعمال الممكن التوقّف عنها. إنّ الّذي ابتلي بالقراءة لا يمكن له إلا أن يقرأ مدى الحياة.
النصوص المحرّضة على القراءة لا حصر لعددها، وهي دوما هنا لكي نطالعها ونتأمّلها ونبحث في دلالاتها وخباياها؛ بدءً من مانشيطات الصحف، وعناوين الشوارع والمحلات التجارية، وعلامات المرور. كما أننا نقرأ (شئنا أم أبينا) الدعوات والاستدعاءات والفواتير واللافتات...
وفي الكثير من الأحيان، يتوجّب علينا قراءة شعارات وطلبات ومواقف المواطن المغبون على الجدران، وخربشات التلاميذ على حيطان المؤسسات التعليمية وعلى طاولاتها، وحتى ما هو مطبوع على قمصانهم وجاكيطاتهم، والرموز التي يعلقونها حول أعناقهم...
لا! لا يمكن للذي قرأ ألف كتاب وكتاب أن (يستريح) من القراءة أو يكُفَّ عنها. القراءة بهذا المعنى قَدَر.
أعرف أن مكتبتَك أكبر من بيتِك. ولقد رأيتُك فيها كمثل دودة الحرير التي تنهم من أوراق شجر التوت. كما رأيتُها تتوقف عن التهام الورق لكيْ تتشرنق، ثم تتحول إلى خادرة، وبعدها إلى فراشة تسعدُ بجمال ألوانها ورقّة طيرانها وسمو وظيفتها قلوب الصغار والكبار. أجل! أراك مثل هذا الكائن الرائع الذي يعطينا أجمل درس: التحوّل من كائن زاحف إلى كائن طائر!
لذا أقول لك:«أما آن لك أوانُ التشرنق والتحول؟»
لا تتردّد يا صديقي العزيز! فأنتَ أغنى من أن تتعثر على أول سطر من مسيرة أدبية واعدة.
أخي؛ إليك هاتين الحقيقتين: إن القراءةَ أصعبُ (في أبعادها) من الكتابة، و إنّ الذي قرأ، لا بُدّ له أن يكتُب.
فلا تتردّد! ولقد سبق لي أن قرأتُ في هوامش الكتب التي أعرتنيها والتي (خربشتـَها) بقلم الرصاص؛ أسئلةً وملاحظاتٍ وأفكاراً وعناوين لقصص وروايات مفترضة تنوي كتابتها...
ـ أكتُب! هذا واجبُك، وهو واجبُك لأنّك قرأت.
تقول في رسالتِك:«... صديقي أدَمين؛ الندم ينتابني أحيانا. فأوبّخ نفسي لصرفي الآلاف من الدراهم لبناء مكتبة جامدة بدل بناء بيتٍ لأسرتي الصغيرة. أجل أيها الصديق، ففي مرّات عديدة ساورتني فكرة التوقف عن اقتناء الكتب وقراءتها؛ و(أفهم) زوجتي عندما تلمّح لي بعدم جدوى ما أفعل...»
أيّها الأديب الحزين، لا تيأس! فإنَّ الأدبَ معنا. لأنّ البنيانَ الصلبَ الخالدَ هو ما سوف تكتبه. وأمّا (الطّوبُ والآجور والإسمنتُ المسلّح) فمصيره الهدم أو الانهدام أو أن يصيرَ أطلالا.
إن كتابة ثلاثة كتب تُعرِّف الإنسان بنفسه وتدلّه على ضالّتِه وتحرره من الخوف وتسعدُه؛ لَهِيَ أفضل وأبقى من بناء عمارة بثلاث طوابق.
بعض الأساتذة لم يعودوا يقرأون. ماذا سوف أقول عنهم عدا أنّهم صاروا في عداد الموتى. المساكين. قاتلهم (الوقتُ) فاقتُتِلوا له.
وبعض الكُتّاب توقفوا عن الكتابة وهُم أحياء. قاتلهم (الوقتُ) فاقتُتِلوا له.
والكثير من المتعلمين لا يقرأون، ولم يكتبوا غير طلبات التوظيف أو الترقية أو التظلمات، ولم يوظفوا أقلامَهم إلا في الشكاوى وطلبات القروض ... هولاء؛ أرى أنهم ليسوا.
فإمّا أن نكون بالقراءة أو لا نكون.
وإمّا أن نبني عمران الأدب والفكر أو نبني الدمار.
وإمّا أن نكون دودة مجرّدة أو نتحوّل إلى فراشة.
الاختيار لنا.