جلسَ الشبح قبالة عزيز كالند متحمساً وقلقاً وهو يندفعُ بسؤاله متطفلاً، مباغتاً، وكأنه يشتمه: لماذا تكتب؟ أليست لديكَ أعمال أخَر؟ ثمَ أردفَ باستخفاف: حسب علمي، أنكَ لا تكسبُ شيئاً من وراء كتاباتك... فلماذا تكتب إذن؟
رفعَ عزيز رأسه نحو السقف وكأنه يدعو عليه بأن تتلقفه العفاريت وتأخذه بعيداً عنه... ثمَ نظرَ له دونَ أن يخفض له عين، فقالَ مدافعاً عن وجهة نظره التي حسبها قد اخترقت: صحيح أنا لا أكسب شيئاً مادياً من وراء ما أكتبه، بل أستطيع أن أؤكد لكَ العكس تماماً... فأنا من يدفع لأجل الكتابة... وتابعَ بحماس فطري عجيب كعادته: وما شراء الكتب بأنواعها وبأسعارها الباهظة... إلا لمواصلة الكتابة، ولكَ أن تعرف ما أعاني وما ألاقي؛ ثمَ استطردَ عزيز بنفس الاندفاع الذي بدا على هيئة الشبح وهو يستجوبه، فقالَ مضيفاً: الكتابة بالنسبة لي كالطعام والشراب... إن ابتعدت عنها، هلكت؛ وأنت لا ترضى لي الهلاك؟ أليسَ كذلك...؟ وواصل بغرور مفتعل: وأنت كما ترى... فأنا مازلتُ في ربيع العمر.
نظرَ الشبح لعزيز بنظرات ملؤها الغضب والتحدي، وهو يحاول أن يكتم أنفاسه بجزع دونَ فائدة... فمنظره كانَ يوحي بأنَ روحه وكأنها تحتضر الساعة... فأنتبه على نفسه بحرج وغيض، فقال مستدركاً باسترخاء شديد وبسخرية خبيثة، كمحقق يتلذذ بتعذيب أحدهم بينَ يديه: وماذا تكتب؟ ولمن؟
أكتبُ ما أعرفه فقط؛ وأتوقف عندما لا أجد ما أكتبه... حينها أتوجه إلى القراءة والتأمل، ثمَ أعود إلى الكتابة عندما أعلم عن ماهية ما سأكتب؛ وفي حالات أقوم بمزج الخيال بالواقع، وحتى الخيال هنا، يجب أن يتمتع بشيء من الواقع أو الحقيقة... علماً بأنَ شخصيات قصصي وحكاياتي أغلبها عاشت الحياة وتشبعت بفرح وترح الواقع، ثمَ استطردَ باندفاع وشهوة للحديث فقالَ بهدوء دونَ انفعال: فالشخصيات تبقى من لحم ودم، إنسانية... تتأثر وتكره وتحب وتعاني وتفرح وتتألم وتعتدي وتظلم في أحيان وتكون ظالمة في أحيان أخرى... أي بمعنى آخر: أجسد تلك الرموز بشكل مفضوح وبإحساس واضح وبانفعالات صادقة دونَ رتوش؛ لذلكَ دخلت قلوب الناس بسرعة لأنهم شعروا بقربها من خلجات أنفسهم دونَ تردد أو تفكير طويل...
أخذَ عزيز نفساً عميقاً، بعدَ أن شعرَ بحاجة ملحة لذلك، ثمَ رنَّ صوته ثانيةً وهو يتابع بنهم الجائع إلى الكلام قائلاً: النظام والمثابرة، هما طاقة الموهبة، بل طاقة أي كاتب يريد أن يكون متميزاً... خاصة الذي لا يكتب بطلب. ثمَ أضافَ بصدق لا يخالطه أدنى شك( بالنسبة له) فقال:
أكتبُ بلغة سهله، يفهمها المتلقي سريعاً وكأنني نفسه؛ ثمَ أحاول أن أخاطب مشاعره بكلمات يجدها قريبة من روحه ولا يحتاج إلى عناء البحث في المفردة ومعناها في قواميس اللغة... ثمَ أردفَ بوقار: يمكن لكَ أن تقول بأني صديق القارئ دونَ الحاجة لمعرفته... وهذه نعمة قلما يتمتع فيها أحد؛ فحب الناس غاية تأتي بالمعجزات، قالَ ذلك وهو يخطفُ نظرة سريعة من الشبح... فرآه يستمع له بشكل غريب، كالمسحور... ثمَ استطردَ عزيز بكل إخلاص: أنا أكتبُ لنفسي أولاً، وكما قلت، فالكتابة كطعامي وشرابي... ثمَ لزوجتي وأولادي ولمحبي الأدب أينما كانوا.
ردَّ عليه الشبح بنبرة محتجة: نعم، ... نعم أنا أتفهم مشاعر الفقراء والذينَ لا يملكون شيئاً... فيحاولون بشتى الطرق أن يثبتوا وجودهم، حتى على حساب أنفسهم ووقت عائلاتهم، ثمَ يدمدمون هؤلاء بفخر كاذب: نحن نريد تحقيق الذات الغائبة... وكأنها ذات مهجورة في مدينة لا ينبحُ فيها كلب ولا يصيحُ فيها ديك ولا يقتل فيها قتيل ولا يولد فيها وليد...( وهو يتمتم بهمس مخنوق، خبيث كالشيطان)
أستوقفه عزيز بحدة، بعدَ أن شعرَ بأنَ الشبح قد تجاوزَ حدود اللياقة في الكلام، ليدخل في مساحات عميقة من ذوات الناس رغم جهله لهم... فقالَ جاداً: تباً لكَ من محاور فاشل، ثمَ أضافَ بشجاعة وإباء: تندفع إلى الشتيمة وهي لغة الضعفاء، وأراكَ لا تملك ما تقوله...
يقهقه الشبح بازدراء... هه... هه... هه، وهو يقول باستهتار: قل ما يحلو لكَ، فهذا النوع من الرجال ( وهو يشير بأصبعه نحو عزيز) قد خبرتهم جيداً... ثمَ أردفَ بسخرية وتهكم قائلاً: لا جديد في كلامكم، كله معاد ومملّ ونافذ الصلاحية.
سألهُ عزيز بحزم: ماذا تريد مني؟
أواجهكَ بالحقيقة!
وما هي حقيقتي التي أجهلها يا شبح؟
إنكَ إنسان فاشل، فارغ ولا تجد ما تفعله سوى اللعب بالكلمات وخداع الآخرين من خلالها... ثمَ ضحكَ بتشنج كصراخ قطة وهي تدافع عن نفسها.
أجابه عزيز بثقة واعتداد وهو يبتسم بوقار: إن كنتُ مكشوفا بهذه السهولة لك، لماذا تجالسني وتأخذ من وقتك لتحاور شخص مثلي؟
ترددَ الشبح قليلاً... وعلت في المكان فترة صمت لبرهة، ثمَ قالَ بتباطؤ وتلكؤ: الحقيقة أني... أقصد في بعض الأحيان أشعرُ بالضجر والوحدة، فأتجه للقراءة كي أرفه عن نفسي وأتسلى...
عظيم، ردَ عليه عزيز مبتسماً، واستطرد: وماذا تقرأ كي تتسلى؟
أقرأ حكاياتك وقصصك التي أصدّعْتَ رؤوسنا بها.
ضحكَ عزيز بملء فمه بفرح، كالمنتصر وقالَ ساخراً: لكنني شخصٌ فارغ باعترافك، ممل في تقديرك ولا أنتجُ شيئاً جاداً أو مسلياً حسب استجوابك... فلماذا تقرأ لي؟
قالَ الشبح بهدوء عجيب وكأنه ينوي النوم: ببساطة وصدق، لأنني أجدُ التشويق في قصصك، والسرد السلس الذي أفهمه دونَ حرج أو تفكير... ثمَ أردفَ باهتمام: يعني كتاباتك تدخل القلب دونَ الحاجة لطرق بابه... ثمَ هَمَّ بالوقوف وكأنه ينوي أن يغادر المكان، وهو يتمتم بصوتٍ منخفض: يتظاهر بالثمالة وهو في الواقع، واعٍ لكل ما يدور حوله، ثمَ واصلَ همسه قائلاً: عفريت بهيئة إنسان!
ردَ عليه عزيز بعزم: قل، وقضى ربك عليَّ بأن أكون من زمرة هؤلاء الذين يدخلون قلوب الناس قبلَ عقولهم؛ ثمَ سأله مباغتاً، مستفسراً: إلى أين يا شبح؟
إلى شخص آخر، لعلي أجد فيه... ما لم أجده فيك!
وماذا وجدتَ فيَّ؟
لا يحق لي أن أقول بعدَ الآن أي شيء... لقد حزمتُ أمري، وقررت الانصراف...
وفي اللحظة التي أنصرفَ فيها الشبح، سمعَ عزيز صوت النادل وهو يصرخ به متوسلاً: أرجوك يا سيدي، فأنا أتكلم معكَ منذ دقائق... وأطلب منك أن تدفع الحساب، لأننا نريد إغلاق المحل وأنت... أنتَ ليسَ هنا، ثمَ أردفَ بعصبية: عفا الله عنك يا سيدي... وهو ينفخُ الهواء من فمه بقوه، كثعبان متوثب للافتراس...
نظرَ عزيز له بدهشة واستغراب، ثمَ خفض بصره إلى الطاولة... فوجدَ نفسه قد كتبَ حوارا غريبا دار بينه وبين شبح كانَ قبالته يستجوبه كقاضٍ شاب متحمس؛ نقدَ النادل عشرة دولارات خضراء، وهو يقهقه كالطفل الذي كوفئ بقطعة حلوى، بعدَ أن أنجز ما أوكلَ له من عمل... ثمَ أندفعَ سريعاً خارج المحل، كأنه ينوي الاختباء من أمثال هؤلاء الأشباح الذين يقيمون في كل مكان من هذا العالم الصغير... ابتلعهَ الظلام فجأة وهو يسير على غير هدى، كمن يسير معصوب العينين... ويدمدم حائراً: منْ كانَ هذا الشبح؟ وما نسبة قرابته مني؟