حاول مصطفى مرارا تركيز ذهنه على أحداث الرواية التي بين يديه، لكن فكرة لقاء تلك المرأة الغريبة الأطوار كانت تشوش على خياله. تُرى، كيف هي؟ وهل ما حكى عنها حسن حقيقة أم كذب بغيض؟
إنّ في هذه الرواية أحداثا خارقة، لكن ما في الواقع لهُو َأغرب من الخيال!
السادسة مساء. اقترب موعد إغلاق المعامل؛ وصديقه حسن سيطرق الباب، وسوف يقفز إليه ليقول: ـ هيّا بنا ! فأنا مشتاق لرؤيتها.
ولنفسه سيقول:«ابن اللئيمة، لقد عرف كيف يشد اهتمامي بالموضوع... لقد سبق له أن قال لي:«إن غرائبية الرواية التي تقرأ لا تساوي شيئا بالنسبة لما سوف تراه».
الساعة جاوزت السادسة بكثير، وحسن لم يظهر في الشارع. قلق.
ثم قرع الباب. إنه هو. وبسرعة جرّه من يده إلى بيته.
شرع حسن ينزع عنه سترة العمل. سأل مصطفى: ـ أين هي الغرابة؟ ـ أتقصد جدّتي؟ ـ وما أدراني أن تكون جدّتُك أو صديقتُك أو حتى أمُّك؟ أنتَ لم تخبرني من قبل؛ قلتَ سترى امرأة عجيبة فقط.
فجأة سمعا وقع أقدام: ـ ششش! إنها قادمة.
انحدرت الجدّة من الطابق العلوي، ثم دلفت إلى غرفة.
ـ إنها امرأة عادية ـ همس مصطفى ـ أراها نحيلة لكنها عادية. ـ اصمت! سوف ترى.
بالغرفة المجاورة لغرفة الجدة نافذة عالية صغيرة تطل عليها. وقف الصديقان على طاولة، وراحا يشاهدان.
شرعت العجوز تتيمّم بحجر أسود، ثم قامت تصلي. وشوشَ مصطفى: ـ إنه لأمرٌ عادي... ـ شششْ!
سلّمت الجدّة على الملكين، ثم رفعت يديها المعروقتين للدعاء، ثم قامت إلى صندوق خشبي مستطيل في لون الزعفران. فتحته برفق، ثم دخلته وتمدّدتْ فيه على ظهرها وصالبتْ يديها على صدرها النحيل.
ـ ماذا تفعل؟ همس مصطفى. ـ إنها على هذا الحال منذ أن توفّى زوجها... ـ اسمع! إنها تقول شيئاً مّا...
تقول الجدّة:«ربّيَ الله، وديني الإسلام، ونبيّي محمد، ولم أفعل أيّ ذنب... لا لا؛ نسيت... فعلتُ بعض الذنوب... سامحاني...»
ـ ماذا تفعل؟ ـ إنها تتدرّب على الموت وتستعد للمساءلة.
فها هي تقوم من رقدة الصندوق، وتخرج منه لتقف على رجل واحدة.
ـ ماذا يعني هذا يا حسن؟ ـ إنه يوم القيامة بالنسبة لها.
فجأة، رأياها ترقص وتدور حول نفسِها وتمثل أنها تأكل وتشرب وتعانق حبيبا.
ـ والآن، ماذا تفعل؟ ـ إنها الآن في الجنّة. أجاب حسن.
بعد هذه المشاهدة، فقد مصطفى القدرة على الاستغراب، ولم تعد أيُّ رواية عجائبية تؤثر عليه.