لقد رحل بعد أن عمر طويلا، جثم على أنفاس الأم يبتزها، دون أن يحرثها، ظلت لا تنتج رغم خصوبتها، طاعم كاسي، آمر ناهي، متجبر محتكم، يبعث الرعب في نفوسنا، كان في نفس الوقت في أماكن كثيرة، يفعل بأمهات أخريات، ما يفعل بأمنا. رحل العراب وقد زرع في نفسينا أنا وأخي ما زرع من حقد وظغينة...
لا نذكر والدنا لم يكن ميتا كان حيا يرزق سحبت من يده جميع الصلاحيات عاجزا مكتوف الأيدي، لاحول له ولا قوة ولا والدتنا حدثتنا عنه اللهم بعض المواقف الغامضة لم يكن ما عرفناه عنه كافيا لنرسم له صورة واضحة المعالم. كل ما نعلمه أنه منفي في مكان ما من الدنيا لم نكن في بداية عهدنا على وفاق تام، نختلف في أمور شتى كطريقة توجيه الحياة والمنهاج المتبع، أرزاقنا لم تكن متساوية، ممتلكاتنا لم تخضع للقسمة في ما بيننا وظل هذا الوضع مثار خلاف لم يسو أبدا، بل كرس العداء في النفوس.نهب العراب كل ما كان لدينا من خيرات إلا عنزتين جرباوين، إحداهما من نصيب أخي والثانية من نصيبي، تعهدناهما بالرعاية كل واحد منا من ناحيته، يغزل وبرها لباسا، ودرها القليل يتخذ طعاما، ومع مرور الأيام أخذت عنزتي تستعيد عافيتها، تتماثل للشفاء، بحثت لها عن ذكر فحل،انجبت التوائم مرات أخذت النعمة تزداد شيئا فشيئا.من حين لآخر كان الحال يضيق وبفضل ما كان لدي من علاقات وبفضل تعاون أبنائي والتفافهم حول فكرة البقاء في التضامن كنت أتخطى الأزمات...لبن وسمن وفير ولباس وفراش دثير،وإلاه ورب كريم
لقد ظلت عنزة أخي على حالها رغم أنه كان يبذل كل ما في وسعه لتحسين حالتها والرفع من مردودها، خاصة أنها كانت تحمل ضرعا كبيرا بأربع حلمات، وكان له أبناء يملأ الجشع قلوبهم، يستبقون الضرع والحلمة للقوي منهم،رغم تحسن عائدات العنزة في ما بعد لم يكن لبنها يفي بالحاجة نظرا للنهم وحب الذات وطلب الاغتناء السريع...
كان أخي يرصد كل حركاتي، إذا رآني أقود رعيتي ترعى وترتع وتمرح وتعود شبعى راضية، وتجود بدرها،ورأى قطيعه نحيلا نحيفا أوكل مهمة رعايته لغيره من الأبناء الذين أصبح يعتمد عليهم دون التزام بقواعد المراقبة ولا قواعد الحساب،إلى أن صلب عودهم أعلنوا تمردا سلميا يضمن لهم ممارسة اللعبة القذرة تحت راية مسؤولية الوالد، وأمام تسلطهم وتحكمهم أصبح بينهم كالواو من عمرو، يحركونه كما وكيفما ومتى شاؤا.أصبح لسان حالهم، وسيفه مفلول. رغم اختلاف مآربهم كانوا يجتمعون على الشر، في إحدى جلساتهم النادرة، حن والدهم إلى الماضي،بصوت مبحوح فيه من الضعف ما يعكس سخصيته المهزوزة:
ــ عشت وعمكم تحت رحمة عراب، ردحا من الزمن، شهدنا التعسف والابتزاز، عشنا في رعب دائم لم يكن يمر يوم دون أن نرتجف خوفا وتشتم رائحة قذارتنا من بعيد، نشتغل ليل نهار، وكل ما نجني من محصول يذهب لخزائن العراب.رغم ضعفنا وخوفنا كنا نحاول قدر المستطاع بإمكانياتنا الهشة أن نقاوم عتوه وجبروته،وما كان في الآن ذاته يحمسنا حينا ويثبط همتنا حينا آخر جثومه على صدر أمنا.
لكن رغم كل قوته استطعتما أن تتخلص منه...
أجل يا نعسان،لكن لسنا من كنا السبب المباشر في رحيله
ألم يسبق أن سمعتم عني في معرض حديث أنه كان يجثم على كلكل أمهات كثيران في أماكن متباعدة
قد يكون هذا سبب ضعف قواه، أنهكه التنقل، خاصة إذا لم يكن له من يثق بهم في إدارة أموره، ومن ثمة أنسحب على مضض
أحسنت يا شبعان أضيف يا ولدي أنه يشاع أن كانت له هو أيضا أما عجوزا، كانت مستودع كنوزه، سلط الله عليها من أراد بها شرا كما فعل ابنها مع أمهات غيره. ولقد هب لنجدتها...
لقد تنفستما الصعداء بعد رحيله، وانزاح الكابوس الذي كان يقض مضجعكما...ولكن يا والدي لم لازلنا نعيش تحت ضغط الحاجة، وقد رحل منذ أمد بعيد؟
يا نبهان، لم نحظ من بعده إلا بالخراب والدمار، نتيجة إحراق كل شيئ قبل رحيله من جهة، والخلافات بيني وبين عمكم وما نتج عنها من خصومات أدت في كثير من الأحيان إلى رفع السلاح في وجه بعضنا البعض.حتى العنزتان ما تكرم بالإبقاء عليهما إلا لما يئس من نفعهما،معتقدا أن لا يرجى شفاؤهما من الجرب.
ألم تكن عنزة عمي جرباء أيضا؟
بلى يا نبهان، بل كانت أكثر جربا، وقبل أن تسأل لم كان حال عمك أفضل مما نبدو عليه نحن، أود أن أجيبك ربما المنهاج الذي اتبعه عمكم واحترم مسالكه بتعاون صادق من أبنائه هو ما أثمر ما تحسدونه عليه.على كثرة أختلاف أبنائي واتكالهم على الغير في تسيير أمورهم بالإضافة الأنانية المسيطرة عليهم.
اتلمح أيها العجوز إلى أنا المسؤولون عن وضعنا الحالي؟ ولم لا تقول أن القسمة بينكما كانت ضيزى، أو أنك كنت مغفلا، واستطاع أن يستفيد مما لم يكن لك القدرة على إدراكه؟ إذ كيف يعقل أن يكبر قطيعه، بسرعة قياسية ؟ لا بد أن في الأمر سرا ! لابد أنه استغل بلادتك واستحوذ على كل الخيرات ! لابد أن تستعيد حقك الضائع، فنحن لا نسكت على الظلم الذي تعرضت له وكان السبب في ما نحن عليه الآن، أليس كذلك أيها الإخوان؟
بلى، أنظر ما نحن فاعلون يا نبهان
لدي فكرة إذا تجسدت ونجحنا في تنفيذها، من غدها ترون أبناء عمكم يلتحفون السماء ويفترشون الثرى يتلمظون جوعهم.
لكن عما تبحثون وإلى ما تسعون؟ أتخططون للخروج مما نحن عليه أم أنكم تريدون تدمير أبنا ء عمكم؟
دعنا من جبنك يا شعبان... واصل حديثك..أفدنا يا عبقر
مرت بعض الأيام...استطاع حمدان وأخوه كامل،بمساعدته كلابهم، أن يحاصروا ذئبا كان يتربص بقطيعنا، ألقوا عليه القبض بعد أن أرهقه الكلاب وبواسطة كماشة اقتلعوا أنيابه وأبقوا عليه في القطيع يروح ويغدو بين الماعز تحت أنظار نبهان وإخوته..