استفاقت اليوم ولا تزال بقايا حلم عالقة في ذاتها…
هو الذي جمعته بها الأقدار في بلاد الغربة … تعرفت إليه وتعرف إليها. رسما أحلاماً بيضاء وغرقا في مشاوير البحث عن هوية مشتركة.
تذكرت يوم كانت تعد له وجبات الطعام الخاصة ببلدها وكم كان يتباطىء في الطعام دلالة على عدم استساغة الطعم … فتقول له إذا كان الطعام لا يعجبك لا تأكل .. فيومئ برأسه، انه يعجبه.
مرات قليلة أخبرها عن أسرار قلبه، ولما كانت تلحُ في معرفة المزيد كان يبدو صندوقاً مقفلاً،أما هي فكانت تثرثر وتثرثر، في أي شيء، الا يقال ان المراة عندما تكون في ضيق تتكلم!! . سألته مرة عما يعجبه بها، فأجابها صدقها وعفويتها وإنسانيتها، وسألته ما الذي يزعجه فيها، فرد كما كل النساء .. الثرثرة.
بعد ذلك، تعهدت لنفسها أن تصمت ، فلا تكلمه إلا في الحالات الضرورية لتواصلهما . وبعد ثلاثة أيام ، بدا متعباً شاحباً حزيناً سألته عما به؟
أجابها يزعجه صمتها، لقد اكتشف أن لثرثرتها طعم الحياة في روتينه القاتل. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تستعيد تفاصيلها، كم كانت طفلة بين ذراعيه… كم من الساعات كانت تنتظره ليعود عند المساء وتسرق منه ابتسامة كان ضنيناً بها على كل من حوله.
لماذا تركتني… لماذا؟
تردد في نفسها هذه الكلمات وتتابع … أما كان يمكنك أن ترحمني من وحدتي، ولماذا تبقى العلاقات الإنسانية هكذا ملتبسة؟ هل تعتقد أن كل الثرثرات التي أوردتها لإقناعي قد أقنعتني ؟كم أنت مخطئ !
يبدو أنها قررت أخيراً أن ترى الواقع بعينه هو لا بعيون الأمل والأحلام والأوهام، هي امرأة مبعثرة،
امرأة من حطام العلاقات …
استهلكت كل ذكائها وبهائها ومواهبها وهاهي الآن، امرأة وحيدة، كأرملة ثرية لا تعرف كيف تنفق وقتها.
لم تكن لتسند رأسها إلى عائلة تحميها ولا إلى أحبة رحلوا في خياناتهم. كانت امرأة وحيدة … تهرب من وحدتها كي لا يصيبها الجنون، وتتفنن في سبيل البقاء على قيد الحياة … ما هو قيد الحياة هذا ؟ وهل فعلاً يدون عليه الأحياء فقط ؟ إذاً لماذا اسمها لا يزال مدوناً على قيد الحياة. ولماذا لا يصنعون قيداً لليأس وقيداً للإحباط، وقيداً للذل، وآخر للرذيلة، ولماذا تتطلب الحياة قيداً أو قيوداً وهي بحد ذاتها القيد والسجن والسجان .
لا يزال يطن في أذنيها عويل ابن أخيها الصغير ، الذي تمرغ على الأرض باكياً مستجدياً أن يرافقها إلى حيث تريد الذهاب .
لا يزال صغيراً كي يدرك أن يأسها، لا تستطيع أن تحتمله طفولته، ولا حتى غمزتي وجنتيه أو صرير أسنانه عندما يعبث بشعرها مداعباً لها فهي إنسانة تشرف على الانتهاء .
وحتى هرتها الصغيرة تركتها في المنزل الريفي، لأنها أصبحت امرأة منسية ووحيدة … فالهرة أصبحت تزعج وحدتها وضجيج ذكرياتها، لذلك أبعدتها إلى هناك، فلا يعكر صفوة موتها البطيء إلا رنين الهاتف الذي ينقل أصواتاً مرت على يومياتها دون أن تترك أثراً . لا شيء سوى هدير هذه المروحة والحرارة ترتفع إلى الحد غير ممكن.
هذا هو الواقع لأراه الآن بعيني … إحدى صديقاتها تدعوها للصلاة … هل تشفي الصلاة من اليأس؟ وهل لا يزال الوقت ممكناً للمعجزات؟
تسند رأسها براحة يدها إلى الجبين، وتسأل السؤال الأزلي: لماذا جئت لهذه الحياة، أليس من الأفضل لو ينتهي كل شيء في هذه اللحظة؟ لكن هل تتوقف الحياة عند شخص بعينه؟ انها لا تزال تحلم.