آخر ما كنت أتمناه هو أن تكون الدائرة الحكومية الوحيدة التي أجد فيها وظيفة شاغرة هي دائرة الآثار.. المنزوية والمنسية تماما والتي لا يراجعها ولا يزورها أحد، عدا عن بعض الصحفيين الذين يبحثون عن حشوٍ لصفحات جرائدهم النهمة، أو بعض العاملين في مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بحفظ آثار البلد، أو بين الحين والآخر يأتي شرطي يبلّغ الدائرة عن إلقاء القبض على بعض مهربي الآثار، لكي ترسل بدورها لجنة لاستلام الآثار المضبوطة.
إنها دائرة غارقة في الغبار، كأنها تحاكي مجال عملها. ميتة، حتى الهواء فيها لا يتحرك، كما لو أن مراوحها تدور في رأس نائم يصارع حلما سيئا، فهي لا تضرب الهواء لكي يهبط إلى الأسفل، بل تخترقه مثل كتلة هلامية فلا يبارح مكانه، وبوصف أكثر دقة فان الهواء يجتمع حول المروحة مثل قطيع كثيف من الذباب تهشّه فيعود إليها، وهكذا دواليك، فلا يشعر الجالس في أي غرفة من هذه البناية الا بالضجر.
بعد أن ذهبت النشوة الأولى للحصول على الوظيفة وانتهاء زمن البطالة، بدأت أرى الدائرة على حقيقتها هذه، فأخذت ابحث عن أسلحة لقتل الوقت الملعون حتى موعد المغادرة، وجدت ضالتي في أرشيف الدائرة، إذ قادتني إليه حاستي الأدبية، فصرت ألوذ إليه يوميا لأتصفح ملفات المواقع الأثرية في حدود محافظة ميسان.. اكتشفت ان جميع المواقع التي تعود النسبة الكبرى منها إلى حضارة قديمة تسمى «ممكلة ميسان»، كانت بلا حماية ولم يكن أغلبها مسيّجا حتى، القليل منها فقط كان محاطا بأسلاك شائكة ليس من العسير على سارقي الآثار اختراقها. وهؤلاء ليسوا هم الخطر الوحيد على المواقع الأثرية، بل هناك أعمال فتح الطرق، والمشاريع، ومصانع الطابوق وأعمال التنقيب عن النفط ومد أنابيبه، ومد الشبكات الكهربائية وغيرها.
يوما بعد آخر اخذ يداهمني شعور بالأسى، فهذا التاريخ الذي صنعه أسلافنا، وهذه الحضارة الكبيرة التي عاشت واندثرت في أرضنا، وهذه الآثار النفيسة مهملة إلى حد تركها عرضة للسرقة والتخريب والضياع.. فثمة ما يفوق المائة موقع تتعرض بشكل دائم للنبش واستخراج اللقى الأثرية، لتصير إلى جيوب المتاجرين بإرث تاريخي لحضارة امتدت عشرات القرون. لهذا قررت أن اكتب عنها لعلي ألفت الانتباه فأُسمع أحدا أو أحرك ساكنا.
بعد مدة نضجت في ذهني فكرة رواية عن هذه المملكة المندثرة، كان هذا قبل أن اسمع بان أحد الكتاب منشغل بفكرة مقاربة لكنه حوّلها لأسباب لا اعرفها إلى قصة قصيرة حازت جائزة محلية، ثم مات. بالنسبة لي سعيت جادا وشرعت بتنفيذ فكرة الرواية تحت عنوان «مملكة ميسان» لا زالت بعض مقتطفاتها محفوظة في حاسوبي. صرت أبحث في المكتبات عن مصادر تاريخية استقي منها المعلومات لأطور أفكار روايتي وأتقدم في أحداثها، لكن صدمتي كانت كبيرة عندما لم أجد سوى كتاب واحد يتحدث عن المملكة باقتضاب، وبلا تفاصيل ولا ملامح لشكل الدولة السياسي أو حياتها الاجتماعية، أو أية أحداث مهمة فيها.
هذه الحالة المزرية دفعتني إلى البحث عن وجوه أخرى لأكتب عنها، فرحت انسج صورا خيالية مستفيدا من الصور الشحيحة التي اعتصرها من الملفات المغبرة.
مفاجأة نادرة جلبتها الشرطة لي في احد الأيام، فقد ألقت مفارزها القبض على مهرب للآثار وبحوزته لوح طيني قيّم، بالنسبة لي بالذات، فبعد أن استلمناه قام زميل لي بترجمة محتواه، عن لغته المسمارية، فإذا به وصف أدبي جميل للمملكة، صار بعد ذلك ملهمي في كتاباتي عنها. لكن اغرب ما يخص اللوح أني عندما كنت امسكه بيدي وأتأمل كلماته تتردد في أذني أصوات غريبة ونشيج وترنيمات تختفي ما إن اتركه، لم أعر هذا الأمر اهتماما ؛ فالعالم غارق في الأوهام، وأنا جزء منه.
قمت بإعادة صياغة الترجمة بأسلوبي فكان مما اردده دائما منها هذه الكلمات: «... إنها أرض بكر لم تنكشف للغرباء بعد، صحيح أنها مأهولة منذ آلاف السنين تصافحها الوجوه، وتقطنها كائنات كثيرة، منها ما ركب في السفينة ومنها ما خُلق بعد الطوفان.. إلا أنها ارض صالحة لزراعة الأحلام وتدشين الآمال الكبيرة فقط. . .
... في كل عام يدخل المملكة شيخ وقور، لا يتحدث عما يفعله الصبية في الأزقة أو ما تبتاعه النسوة من الأسواق، يتكلم فقط عن الحكمة والأنساب وتواريخ المدن. . وقليلا ما يبوح عن طرقه السرّية التي لا يعرفها غيره.
ففي الأهوار ـ يقول ـ ثمة بيوت طينية وأخرى من القصب، غارقة منذ آلاف السنين، قرى أو منازل منفردة، تُرى عند مغيب النجوم وما تلبث أن تختفي، على بعد قامة من سطح الماء، ثمة سفن وزوارق تحمل بقايا كائنات لم تنجُ من الطوفان. سلاسل كبيرة أيضا، وحبال ودروع في القعر، يزعم انها لمحاربين أسطوريين دفعوا أرواحهم من اجل أن تحيا مملكتهم ولا تستعبد نساؤهم، تجرعوا غصص العذابات لكي يولد أبناؤهم في منازل ليس لأحد أن يستلبها منهم أو يهدمها فوق رؤوسهم المكتظة بالأحلام والآمال. . ولهذا الغرض تخففوا عن رغائبهم الزائلة وأثقلوا أجسادهم بالحديد...».
في صباح احد الأيام رأيت سيارة بيضاء رباعية الدفع تدخل مرآب الدائرة الخالي، عرفت من لوحتها الزرقاء والشعار على جانبها انها من سيارات شركة نفط ميسان. حدث نادر أن يزور دائرة الآثار وفد من شركة النفط، لكن السبب معروف، فقد اصطدموا أثناء عملهم بموقع أثري، وبسرعة كعادته جمع المدير لجنة للذهاب برفقتهم.
إنه موقع جديد لم يُكتشف من قبل ولم يُثبّت في ملفات الدائرة. كنت واحدا من اللجنة ومهمتي تصوير الموقع وتوثيق أهم الملاحظات عنه ؛ طبيعته، مساحته التقريبية، مدى الأضرار التي لحقت به، وملاحظات أخرى كان يمليها المدير.
دخلنا في الشق الذي أحدثته آليات التنقيب عن النفط، عرضه ثلاثة أمتار تقريبا، صورت الجدران التي انهدمت، وكيف اقتطعت الآليات امتدادها وتماسكها منذ أزمان غابرة.
موقف فريد أن ترى مكانا فارقته الأنفاس البشرية منذ آلاف السنين. الطابوق القديم وهو يختزن خلفه تراثا بعيدا، وأصواتا خفيضة غائرة، أحسست عندما لمسته كما لو أني ألمس جلد أفعى.
كان الموقع الذي فتح الشق فيه فضاءا واسعا عبارة عن عدة قاعات واسعة، ربما كان قصرا ملكيا، هكذا تكهن المدير. بعض الفتحات تفضي إلى غرف وقاعات مطمورة، كلما دخلنا أكثر أخذت اسمع اصواتا كالشهيق، شبيهة بأصوات اللوح، اختلاجات تنبجس من الجداران. بقيت أنصت لجدار مليء بالكلمات، حسبت انه ينطق، فقد كنت اسمع ترنيمة خفية، تخترق الوهم لتجعلني اشك بالواقع. . فهل هي أصداء أصواتنا أم شيء آخر!
طلبت من زميلي ترجمة ما كُتب على هذا الجدار فاتضح أنها مقطوعة ملحمية تحكي قصة شعب ثائر، وكانت تقول:
انتفض الشعب مثل نمر هائج الجوع والظلم والقهر والاستعباد نيران اضطرمت فتأججوا ثائرين حاملين الفؤوس والمطارق والسيوف الفلاحون أيضا خرجوا والصيادون تمثال هسباوسينس تحطم وذري في النهر المزارع والحبوب عادت لأصحابها ، تلاشى صراخ الأطفال في المنازل البعيدة القدور امتلأت بلحوم الماشية الملكية فليبارك إله السماوات وثبة النمر ولتحيَ مملكتنا بسلام إلى الأبد.
فكرة استكمال الرواية قبل ذلك اليوم كانت قائمة، وقد أفادني اللوح كثيرا، لكن بعد ما حدث في الموقع الجديد لم أكتب كلمة واحدة فيها. الغريب في الأمر أن شيئا خفيا دفعني أن اكتب قصة قصيرة في نفس موضوع الرواية التي لم تكتمل بعد.